الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ} أي قصص الأنبياء عليهم السلام وأممهم، وقيل: قصص يوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام وروي ذلك عن مجاهد، وقيل: قصص أولئك وهؤلاء، والقصص مصدر بمعنى المفعول ورجح الزمخشري الأول بقراءة أحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي. وعبد الوارث عن أبي عمرو {قَصَصِهِمْ} بكسر القاف جمع قصة. ورد بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة على أنه قد يطلق الجمع على الواحد، وفيه أنه كما قيل إلا أنه خلاف المتبادر المعتاد فإنه يقال في مثله قصة لا قصص، واقتصر ابن عطية على القول الثالث وهو ظاهر في اختياره {عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالباب} أي لذوي العقول المبرأة عن الأوهام الناشئة عن الألف والحسن. وأصل اللب الخالص من الشيء ثم أطلق على ما زكا من العقل فكل لب عقل وليس كل عقل لباً، وقال غير واحد: إن اللب هو العقل مطلقاً وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه، ولم يرد في القرآن إلا جمعاً، والعبرة كما قال الراغب الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد، وفي «البحر» أنها الدلالة التي يعبر بها إلى العلم {مَا كَانَ} أي القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة. واستظهر أبو حيان عود الضمير إلى القصص فيما قبل، واختار بعضهم الأول لأنه يجري على القراءتين بخلاف عوده إلى المتقدم فإنه لا يجري على قراءة القصص بكسر القاف لأنه كان يلزم تأنيث الضمير، وجوز بعضهم عوده إلى القصص بالفتح في القراءة به وإليه في ضمن المكسور في القراءة به وكذا إلى المكسور نفسه، والتذكير باعتبار الخبر وهو كما ترى {حَدِيثًا يفترى} أي يختلق {ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب السماوية {وَتَفْصِيلَ} أي تبيين {كُلّ شَىْء} قيل: أي مما يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بوسط، وقال ابن الكمال: إن {كُلٌّ} للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى: و{أُوتِيتَ مِن كُلّ شَىْء} [النمل: 23] ومن لم يتنبه لهذا احتاج إلى تخصيص الشيء بالذي يتعلق بالدين ثم تكلف في بيانه فقال: إذ ما من أمر الخ ولم يدر أن عبارة التفصيل لا تتحمل هذا التأويل، ورد بأنه متى أمكن حمل كلمة {كُلٌّ} على الاستغراق الحقيقي لا يحمل على غيره، والتخصيص مما لا بأس به على أنه نفسه قد ارتكب ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء} [الأنعام: 154] وكون عبارة التفصيل لا تتحمل ذلك التأويل في حيز المنع. ومن الناس من حمل {كُلٌّ} على الاستغراق من غير تخصيص ذاهباً إلى أن في القرآن تبيين كل شيء من أمور الدين والدنيا وغير ذلك مما شاء الله تعالى ولكن مراتب التبيين متفاوتة حسب تفاوت ذوي العلم وليس ذلك بالبعيد عند من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقيل: المراد تفصيل كل شيء واقع ليوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام مما يهتم به وهو مبني على أن الضمير في {كَانَ} لقصصهم {وهدى} من الضلالة {وَرَحْمَةً} ينال بها خير الدارين {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون تصديقاً معتداً به، وخصوا بالذكر لأنهم المنفعون بذلك ونصب {تَصْدِيقَ} على أنه خبر كان محذوفاً أي ولكن كان تصديق، والإخبار بالمصدر لا يخفى أمره. وقرأ حمران بن أعين. وعيسى الكوفة فيما ذكر صاحب اللوامح. وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية {تَصْدِيقَ} بالرفع وكذا برفع ما عطف عليه على تقدير ولكن هو تصديق الخ، وقد سمع من العرب في مثل ذلك الرفع والنصب، ومنه قول ذي الرمة: وما كان مالي من تراث ورثته *** ولا دية كانت ولا كسب مأثم ولكن عطاء الله من كل رحلة *** إلى كل حجوب السرداق خضرم فإنه روي بنصب عطاء ورفعه، هذا والله تعالى الهادي إلى سوء السبيل. ومن باب الإشارة في هذه السورة: قال سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] وهو اقتصاص ما جرى ليوسف عليه السلام وأبيه وإخوته عليهم السلام، وإنما كان ذلك أحسن القصص لتضمنه ذكر العاشق والمعشوق وذلك مما ترتاح له النفوس أو لما فيه من بيان حقائق محبة المحبين وصفاء سر العارفين والتنبيه على حسن عواقب الصادقين والحث على سلوك سبيل المتوكلين والاقتداء بزهد الزاهدين والدلالة على الانقطاع إلى الله تعالى والاعتماد عليه عند نزول الشدائد، والكشف عن أحوال الخائنين وقبح طرائق الكاذبين، وابتلاء الخواص بأنواع المحن وتبديلها بأنواع الألطاف والمنن مع ذكر ما يدل على سياسة الملوك وحالهم مع رعيتهم إلى غير ذلك، وقيل: لخلو ذلك من الأوامر والنواهي التي يشغل سماعها القلب {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاِبِيهِ ياأبت ياأبت إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] هذه أول مبادىء الكشوف فقد ذكروا أن أحوال المكاشفين أوائلها المنامات فإذا قوي الحال تصير الرؤيا كشفاً، قيل: إنه عليه السلام قد سلك به نحواً مما سلك برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه بدىء بالرؤيا الصادقة كما بدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فكانلا يرى رؤيا إلا كانت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء على ما يشير إليه قوله: {رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ} [يوسف: 33] كما حبب ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد، وفيه أن حديث السجن بعد إيتاء النبوة فتدبر. وذكر بعض الكبار أن يوسف عليه السلام كان آدم الثاني لما كان عليه من كسوة الربوبية ما كان على آدم عليه السلام وهو مجلي الحق للخلق لو يعلمون فلما رأت الملائكة ما رأت من آدم سجدوا له وههنا سجد ليوسف من سجد وهم الشمس والقمر والكواكب المعدودة المشار بهم إلى أبويه وإخوته الذين هم على القول بنبوتهم خير من الملائكة عليهم السلام، ولا بدع إذ سجدوا لمن يتلألأ من وجهه الأنوار القدسية والأشعة السبوحية: لو يسمعون كما سمعت حديثها *** خروا لعزة ركعاً وسجودا وقد يقال: إن إبراهيم عليه السلام لما رأى في وجنة الكوكب ونقطة خال القمر وأسرة جبين الشمس أمارات الحدثان وصرف وجهه عنها متوجهاً إلى ساحة القدم المنزهة عن التغير المصونة عما يوجب النقص قائلاً: {إِنّي بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] أسجد الله تعالى الشمس والقمر واسجد بدل الكواكب كواكب لبعض بنيه إعظاماً لأمره ومبالغة في تنزيه جلال الكبرياء، وحيث تأخرت البراءة إلى الثالث تأخر أمر الإسجاد إلى ثالث البنين، وليس المقصود من هذا إلا بيان بعض من أسرار تخصيص المذكور بالإراءة مع احتمال أن يكون هناك ما يصلح أن يكون رؤياه ساجداً معبراً بسجود أبويه وإخوته له عليهم السلام في عالم الحس فتدبر. {قَالَ يَاءادَمُ بَنِى لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ على إِخْوَتِكَ} فيه إشارة إلى بعض آداب المريدين؛ فقد قالوا: إنه لا ينبغي لهم أن يفشوا سر المكاشفة إلا لشيوخهم وإلا يقعوا في ورطة ويكونوا مرتهنين بعيون الغيرة: بالسر إن باحوا تباح دماؤهم *** وكذا دماء البائحين تباح {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] هذا من الإلهامات المجملة وهي إنذارات وبشارات، ويجوز أن يكون علم عليه السلام ذلك من الرؤيا؛ قال بعضهم: إن يعقوب دبر ليوسف عليهما السلام في ذلك الوقت خوفاً عليه فوكل إلى تدبيره فوقع به ما وقع ولو ترك التدبير ورجع إلى التسليم لحفظ {لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايات لّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] وذلك كسواطع نور الحق من وجهه وظهور علم الغيب من قلبه ومزيد الكرم من أفعاله وحسن عقبى الصبر من عاقبته، وكسوء حال الحاسد وعدم نقض ما أبرمه الله تعالى وغير ذلك، وقال بعضهم: إن من الآيات في يوسف عليه السلام أنه حجة على كل من حسن الله تعالى خلقه أن لا يشوهه بمعصيته ومن لم يراع نعمة الله تعالى فعصى كان أشبه شيء بالكنيف المبيض والروث المفضض. وقال ابن عطاء: من الآيات أن لا يسمع هذه القصة محزون مؤمن بها إلا استروح وتسري عنه ما فيه، {وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ} [يوسف: 16] قيل: إن ذلك كان بكاء فرح بظفرهم بمقصودهم لكنهم أظهروا أنه بكاء حزن على فقد يوسف عليه السلام، وقيل: لم يكن بكاءً حقيقة وإنما هو تباك من غير عبرة؛ وجاؤا عشاء ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار أو ليدلسوا على أبيهم ويوهموه أن ذلك بكاءً حقيقة لا تباك فإنهم لو جاؤا ضحى لافتضحوا: إذا اشتبكت دموع في خدود *** تبين من بكى ممن تباكى {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] وهو السكون إلى موارد القضاء سراً وعلناً، وقال يحيى بن معاذ: الصبر الجميل أن يتلقى البلاء بقلب رحيب ووجه مستبشر، وقال الترمذي: هو أن يلقي العبد عنانه إلى مولاه ويسلم إليه نفسه مع حقيقة المعرفة فإذا جاء حكم من أحكامه ثبت له مسلماً ولا يظهر لوروده جزعاً ولا يرى لذلك مغتماً، وأنشد الشبلي في حقيقة الصبر: عبرات خططن في الخد سطرا *** فقراه من لم يكن قط يقرا صابر الصبر فاستغاث به الصب *** ر فصاح المحب بالصبر صبرا {قَالَ يَا بشّرى هذا غُلاَمٌ} [يوسف: 19] قال جعفر: كان لله تعالى في يوسف عليه السلام سر فغطي عليهم موضع سره ولو كشف للسيارة عن حقيقة ما أودع في ذلك البدر الطالع من برح دلوهم لما اكتفى قائلهم بذلك ولما اتخذوه بضاعة، ولهذا لما كشف للنسوة بعض الأمر قلن: {مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] ولجهلم أيضاً بما أودع فيه من خزائن الغيب باعوه بثمن بخس وهو معنى قوله سبحانه: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] قال الجنيد قدس سره: كل ما وقع تحت العد والإحصاء فهو بخس ولو كان جميع ما في الكونين فلا يكن حظك البخس من ربك فتميل إليه وترضى به دون ربك جل جلاله، وقال ابن عطاء: ليس ما باع إخوة يوسف من نفس لا يقع عليها البيع بأعجب من بيع نفسك بأدنى شهوة بعد أن بعتها من ربك بأوفر الثمن قال الله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين} [التوبة: 111] الآية فبيع ما تقدم بيعه باطل، وإنما باع يوسف أعداؤه وأنت تبيع نفسك من أعدائك {وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} قيل: أي لا تنظري إليه نظر الشهوة فإن وجهه مرآة تجلى الحق في العالم، أو لا تنظري بنظر العبودية ولكن انظري إليه بنظر المعرفة لتري فيه أنوار الربوبية؛ أو اجعلي محبته في قلبك لا في نفسك فإن القلب موضع المعرفة والطاعة والنفس موضع الفتنة والشهوة {عسى أَن يَنفَعَنَا} قيل: أي بأن يعرفنا منازل الصديقين ومراتب الروحانيين ويبلغنا ببركة صحبته إلى مشاهدة رب العالمين، وقيل: أراد حسنى صحبته في الدنيا لعله أن يشفع لنا في العقبى {وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا} حيث غلب عليها العشق {وَغَلَّقَتِ الابواب} [يوسف: 23] قطعت الأسباب وجمعت الهمة إليه أو غلقت أبواب الدار غيرة أن يرى أحد أسرارهما {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} قال ابن عطاء: هم شهوة {وَهَمَّ بِهَا} هم زجر عما همت به بضرب أو نحوه {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} وهو الواعظ الإلهي في قلبه {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} والخواطر الرديئة {والفحشاء} [يوسف: 24] الأفعال القبيحة، وقيل: البرهان هو أنه لم يشاهد في ذلك الوقت إلا الحق سبحانه وتعالى، وقيل: هو مشاهدة أبيه يعقوب عليه السلام عاضاً على سباباته، وجعل ذلك بعض أجلة مشايخنا أحد الأدلة على أن للرابطة المشهور عند ساداتنا النقشبندية أصلاً أصيلاً وهو على فرض صحته بمراحل عن ذلك {واستبقا الباب} فراراً من محل الخطر. قيل: لو فر إلى الله تعالى لكفاه ولما ناله بعد ما عناه {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لدى الباب قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا} [يوسف: 25] نفت عن نفسها الذنب لأنها علمت إذ ذاك أنها لو بينت الحق لقتلت وحرمت من حلاوة محبة يوسف والنظر إلى وجهه: لحبك أحببت البقاء لمهجتي *** فلا طال إن أعرضت عني بقائيا وإنما عرضت بنسبة الذنب إليه لعلمها بأنه عليه السلام لم يبق في البؤس ولا يقدر أحد على أن يؤذيه لما أن وجهه سالب القلوب وجالب الأرواح: له في طرفه لحظات سحر *** يميت بها ويحيي من يريد ويسبي العالمين بمقلتيه *** كأن العالمين له عبيد وقال ابن عطاء: إنها إذ ذاك لم تستغرق في محبته بعد فلذا لم تخبر بالصدق وآثرت نفسها عليه ولهذا لما استغرقت في المحبة آثرت نفسه على نفسها فقالت: {الآن حصحص الحق} [يوسف: 51] الآية، ثم إنه عليه السلام لم يسعه بعد تهمتها له إلا الذب عن ساحة النبوة التي هي أمانة الله تعالى العظمى فقال: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} [يوسف: 26] وإلا فاللائق بمقام الكرم السكوت عن جوابها لئلا يفضحها، وقيل: إنها لما ادعت محبة يوسف وتبرأت منها عند نزول البلاء أراد يوسف عليه السلام أن يلزمها ملامة المحبة فإن الملامة شعار المحبين ومن لم يكن ملوماً في العشق لم يكن متحققاً فيه {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] عظم كيدهن لأنهن إذا ابتلين بالحب أظهرن مما يجلب القلب ما يعجز عنه إبليس مع مساعدة الطبيعة إلى الميل إليهن وقوة المناسبة بين الرجال وبينهن كما يشير إليه قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] فما في العالم فتنة أضر على الرجال من النساء {قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} قال الجنيد قدس سره: الشغف أن لا يرى المحب جفاء له جفاء بل يراه عدلاً منه ووفاء: وتعذيبكم عذب لدى وجوركم *** علي بما يقضي الهوى لكم عدل {إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضلال مُّبِينٍ} [يوسف: 30] قال ابن عطاء: في عشق مزعج {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} عظمنه لما رأين في وجهه نور الهيبة {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} لاستغراقهن في عظمته وجلاله، ولعله كشف لهن ما لم يكشف لزليخا، قال ابن عطاء: دهشن في يوسف وتحيرن حتى قطعن أيديهن ولم يشعرن بالألم وهذه غلبة مشاهدة مخلوق لمخلوق فكيف بمن يحظى بمشاهدة من الحق فينبغي أن لا ينكر عليه إن تغير وصدر عنه ما صدر، وأعظم من يوسف عليه السلام في هذا الباب عند ذوي الأبصار السليمة النور المحمدي المنقدح من النور الإلهي والمتشعشع في مشكاة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام فإنه لعمري أبو الأنوار، وما نور يوسف بالنسبة إلى نوره عليه الصلاة والسلام إلا النجم وشمس النهار: لواحي زليخا لو رأين جبينه *** لآثرن بالقطع القلوب على الإيدي وقلن: {مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] قلن ذلك إعظاماً له عليه السلام من أن يكون من النوع الإنساني، قال محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما: أردن ما هذا بأهل أن يدعى إلى المباشرة بل مثله من يكرم وينزه عن مواضع الشبه والأول أوفق بقولها: {فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} [يوسف: 32] أرادت أن لومكن لم يقع في محزه وكيف يلام من هذا محبوبه، وكأنها أشارت إلى أنها مجبورة في ذلك الوله معذورة في مزيد حبها له: خليلي إني قلت بالعدل مرة *** ومنذ علاني الحب مذهبي الجبر وفي ذلك إشارة أيضاً إلى أن اللوم لا يصدر إلا عن خلي، ولذا لم تعاتبهن حتى رأت ما صنع الهوى بهن وما أحسن ما قيل: وكنت إذا ما حدث الناس بالهوى *** ضحكت وهم يبكون في حسرات فصرت إذا ما قيل هذا متيم *** تلقيتهم بالنوح والعبرات وقال سلطان العاشقين: دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى *** فإذا عشقت فبعد ذلك عنف {قَالَ رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} [يوسف: 33] قيل: لأن السجن مقام الانس والخلوة والمناجاة والمشاهدات والمواصلات وفيما يدعونه إليه ما يوجب البعد عن الحضرة والحجاب عن مشاهدة القربة، وقيل: طلب السجن ليحتجب عن زليخا فيكون ذلك سبباً لازدياد عشقها وانقلابه روحانياً قدسياً كعشق أبيه له، وقال ابن عطاء: ما أراد عليه السلام بطلب ذلك إلا الخلاص من الزنا ولعله لو ترك الاختيار لعصم من غير امتحان كما عصم في وقت المراودة {ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس} [يوسف: 38] قال أبو علي: أحسن الناس حالاً من رأى نفسه تحت ظل الفضل والمنة لا تحت ظل العمل والسعي {يَشْكُرُونَ ياصاحبى السجن ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39] دعاء إلى التوحيد على أتم وجه، وحكي أن رجلاً قال للفضيل: عظني فقرأ له هذه الآية {وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذكرنى عِندَ رَبّكَ} [يوسف: 42] كان ذلك على ما قيل غفلة منه عليه السلام عما يقتضيه مقامه ويشير إليه كلامه، ولهذا أدبه ربه باللبث في السجن ليبلغ أقصى درجات الكمال والأنبياء مؤاخذون بمثاقيل الذر لمكانتهم عند ربهم، وقد يحمل كلامه هذا على ما لا يوجب العتاب كما ذهب إليه بعض ذوي الألباب {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} [يوسف: 46] قال أبو حفص: الصديق من لا يتغير عليه باطن أمره من ظاهره، وقيل: الذي لا يخالف قاله حاله، وقيل: الذي يبذل الكونين في رضا محبوبه {وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النفس لامَّارَةٌ بالسوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} [يوسف: 53] إشارة إلى أن النفس بطبعها كثيرة الميل إلى الشهوات؛ قال أبو حفص: النفس ظلمة كلها وسراجها التوفيق فمن لم يصحبه التوفيق كان في ظلمة، وقد تخفى دسائس النفس إلى حيث تأمر بخير وتضمر فيه شراً ولا يفطن لدسائسها إلا لوذعي: فخالف النفس والشيطان واعصمها *** وإن هما محضاك النصح فاتهم وذكر بعض السادة أن النفس تترقى بواسطة المجاهدة والرياضة من مرتبة كونها أمارة إلى مرتبة أخرى من كونها لوامة وراضية ومرضية ومطمئنة وغير ذلك وجعلوا لها في كل مرتبة ذكراً مخصوصاً وأطنبوا في ذلك فيرجع إليه {قَالَ اجعلنى على خَزَائِنِ الارض إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] قيل: خزائن الأرض رجالها أي اجعلني عليهم أميناً فإني حفيظ لما يظهرونه، عليم بما يضمرونه، وقيل: أراد الظاهر إلا أنه أشار إلى أنه متمكن من التصرف مع عدم الغفلة أي حفيظ للأنفاس بالذكر وللخواطر بالفكر، عليم بسواكن الغيوب وخفايا الأسرار {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف: 58] قال بعضهم: لما جفوه صار جفاؤهم حجاباً بينهم وبين معرفتهم إياه وكذلك المعاصي تكون حجاباً على وجه معرفة الله تعالى {قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} [يوسف: 59] كأنه عليه السلام أمر بذلك ليكمل لأبيه عليه السلام مقام الحزن الذي هو كما قال الشيخ الأكبر قدس سره: من أعلى المقامات، وقال بعضهم: إن علاقة المحبة كانت بين يوسف ويعقوب عليهما السلام من الجانبين فتعلق أحدهما بالآخر كتعلق الآخر به كما يرى ذلك في بعض العشاق مع من يعشقونه وأنشدوا: لم يكن المجنون في حالة *** إلا وقد كنت كما كانا لكنه باح بسر الهوى *** وإنني قد ذبت كتمانا فغار عليه السلام أن ينظر أبوه إلى أخيه نظره إليه فيكونا شركين في ذلك والمحب غيور فطلب أن يأتوه به لذلك، والحق أن الأمر كان عن وحي لحكمة غير هذه {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68] إشارة إلى العلم اللدني وهو على نوعين. ظاهر الغيب وهو علم دقائق المعاملات والمقامات والحالات والكرامات والفراسات، وباطن الغيب وهو علم بطون الأفعال ويسمى حكمة المعرفة، وعلم الصفات ويسمى المعرفة الخاصة، وعلم الذات ويسمى التوحيد والتفريد والتجريد، وعلم أسرار القدم ويسمى علم الفناء والبقاء، وفي الأولين للروح مجال وفي الثالث للسر والرابع لسر السر، وفي المقام تفصيل وبسط يطلب من محله. {وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] كأنه عليه السلام إنما فعل ذلك ليعرفه الحال بالتدريج حتى يتحمل أثقال السرور إذ المفاجأة في مثل ذلك ربما تكون سبب الهلاك، ومن هنا كان كشف سجف الجمال للسالكين على سبيل التدريج {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِى رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] قيل: إن الله تعالى أمره بذلك ليكون شريكاً لإخوته في الإيذاء بحسب الظاهر فلا يخجلوا بين يديه إذا كشف الأمر، وحيث طلب قلب بنيامين برؤية يوسف احتمل الملامة، وكيف لا يحتمل ذلك وبلاء العالم محمول بلمحة رؤية المعشوق، والعاشق الصادق يؤثر الملامة ممن كانت في هوى محبوبه: أجد الملامة في هواك لذيذة *** حبا لذكرك فليلمني اللوم وفي الآية على ما قيل إشارة لطيفة إلى أن من اصطفاه الله تعالى في الأزل لمحبته ومشاهدته وضع في رحله صاع ملامة الثقلين، ألا ترى إلى ما فعل بآدم عليه السلام صفيه كيف اصطفاه ثم عرض عليه الأمانة التي لم يحملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها فحملها ثم هيج شهوته إلى حبة حنطة ثم نادى عليه بلسان الأزل {وعصى ءادَمَ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] وذلك لغاية حبه له حتى صرفه عن الكون وما فيه ومن فيه إليه ولولا أن كشف جماله له لم يتحمل بلاء الملامة، وهذا كما فعل يوسف عليه السلام بأخيه آواه إليه وكشف جماله له وخاطبه بما خاطبه ثم جعل السقاية في رحله ثم نادى عليه بالسرقة ليبقيه معه {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] أي نرفع درجاتهم في العلم فلا يزال السالكون يترقون في العلم وتشرب أطيار أرواحهم القدسية من بحار علومه تعالى على مقادير حواصلها، وتنتهي الدرجات بعلم الله تعالى فإن علوم الخلق محدودة وعلمه تعالى غير محدود وإلى الله تعالى تصير الأمور {قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] قال بعض السادات: لما كان بينامين بريئاً مما رمى به من السرقة أنطقهم الله تعالى حتى رموا يوسف عليه السلام بالسرقة وهو برىء منها فكان ذلك من قبيل واحدة بواحدة ليعلم العالمون أن الجزاء واجب. وقال بعض العارفين: إنهم صدقوا بنسبة السرقة إلى يوسف عليه السلام ولكنها سرقة الباب العاشقين وأفئدة المحبين بما أودع فيه من محاسن الأزل {قَالَ مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ} [يوسف: 79] الإشارة في ذلك من الحق عز وجل أن لا نفشي أسرارنا وندني إلى حضرتنا إلا من كان في قلبه استعداد قبول معرفتنا أو لا نختار لكشف جمالنا إلا من كان في قلبه شوق إلى وصالنا، وقال بعض الخراسانيين: الإشارة فيه أنا لا نأخذ من عبادنا أشد أخذ إلا من ادعى فينا أو أخبر عنا ما لم يكن له الإخبار عنه والادعاء فيه، وقال بعضهم: إلا من مد يده إلى ما لنا وادعاه لنفسه، وقال أبو عثمان: الإشارة أنا لا نتخذ من عبادنا ولياً إلا من ائتمناه على ودائعنا فحفظها ولم يخن فيها، ولطيفة الواقعة أنه عليه السلام لم يرض أن يأخذ بدل حبيبه إذ ليس للحبيب بديل في شرع المحبة. أبى القلب إلا حب ليلى فبغضت *** إلى نساء ما لهن ذنوب {إِنَّ ابنك سَرَقَ} [يوسف: 81] قال بعضهم: إنهم صدقوا بذلك لكنه سرق أسرار يوسف عليه السلام حين سمع منه في الخلوة ما سمع ولم يبده لهم {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} [يوسف: 83] كأنه عليه السلام لما رأى اشتداد البلاء قوي رجاؤه بالفرج فقال ما قال: اشتدى أزمة تنفرجي *** قد آذن ليلك بالبلج وكان لسان حاله يقول: دنا وصال الحبيب واقتراب *** واطربا للوصال واطرابا {وَقَالَ يا أسفي على يُوسُفَ} قال بعض العارفين: إن تأسفه على رؤية جمال الله تعالى من مرآة وجه يوسف عليه السلام وقد تمتع بذلك برهة من الزمان حتى حالت بينه وبينه طوارق الحدثان فتأسف عليه السلام لذلك واشتاقت نفسه لما هناك: سقى الله أياماً لنا ولياليا *** مضت فجرت من ذكرهن دموع فياهل لها يوماً من الدهر أوبة *** وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع {وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} [يوسف: 84] حيث بكى حتى أضر بعينيه وكان ذلك حتى لا يرى غير حبيبه: لما تيقنت أني لست أبصركم *** غمضت عيني فلم أنظر إلى أحد قال بعض العارفين: الحكمة في ذهاب بصر يعقوب وبقاء بصر آدم وداود عليهما السلام مع أنهما بكيا دهراً طويلاً إن بكاء يعقوب كان بكاء حزن معجون بألم الفراق حيث فقد تجلى جمال الحق من مرآة وجه يوسف ولا كذلك بكاء آدم وداود فإنه كان بكاء الندم والتوبة وأين ذلك المقام من مقام العشق، وقال أبو سعيد القرشي: إنما لم يذهب بصرهما لأن بكاءهما كان من خوف الله تعالى فحفظاً وبكاء يعقوب كان لفقد لذة فعوتب، وقيل: يمكن أن يكون ذهاب بصره عليه السلام من غيرة الله تعالى عليه حين بكى لغيره وإن كان واسطة بينه وبينه، ولهذا جاء أن الله تعالى أوحى إليه يا يعقوب أتتأسف على غيري وعزتي لآخذن عينيك ولا أردهما عليك حتى تنساه، واختار بعض العارفين أن ذلك الأسف والبكاء ليسا إلا لفوات ما انكشف له عليه السلام من تجلى الله تعالى في مرآة وجه يوسف عليه السلام، ولعمري أنه لو كان شاهد تجليه تعالى في أول التعنيات وعين أعيان الموجودات صلى الله عليه وسلم لنسي ما رأى ولما عراه ما عرا ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول: لو أسمعوا يعقوب بعض ملاحة *** في وجهه نسي الجمال اليوسفي [يوسف: 85] هذا من الجهل بأحوال العشق وما عليه العاشقون فإن العاشق يتغذى بذكر معشوقه: فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها *** فلن تمنعوا مني البكا والقوافيا وإذا لم يستطع ذكره بلسانه كان مستغرقاً بذكره إياه بجنانه: غاب وفي قلبي له شاهد *** يولع إضماري بذكراه مثلت الفكرة لي شخصه *** حتى كأني أتراآه وكيف يخوف العاشق بالهلاك في عشق محبوبه وهلاكه عين حياته كما قيل: ولكن لدى الموت فيه صبابة *** حياة لمن أهوى علي بها الفضل ومن لم يمت في حبه لم يعش به *** ودون اجتناء النحل ما جنت النحل {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَنِى *وَحُزْنِى إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] أي أنا لا أشكو إلى غيره فإني أعلم غيرته سبحانه وتعالى على أحبابه وأنتم لا تعلمون ذلك، وأيضاً من انقطع إليه تعالى كفاه ومن أناخ ببابه أعطاه، وأنشد ذو النون: إذا ارتحل الكرام إليك يوما *** ليلتمسوك حالاً بعد حال فإن رحالنا حطت رضاء *** بحكمك عن حلول وارتحال فسسنا كيف شئت ولا تكلنا *** إلى تدبيرنا يا ذا المعالي وعلى هذا درج العاشقون إذا اشتد بهم الحال فزعوا إلى الملك المتعال، ومن ذلك: إلى الله أشكو ما لقيت من الهجر *** ومن كثرة البلوى ومن ألم الصبر ومن حرق بين الجوانح والحشا *** كجمر الغضا لا بل أحر من الجمر وقد يقال: إنه عليه السلام إنما رفع قصة شكواه إلى عالم سره ونجواه استرواحاً مما يجده بتلك المناجاة كما قيل: إذا ما تمنى الناس روحاً وراحة *** تمنيت أن أشكو إليه فيسمع {تَعْلَمُونَ يبَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} كأنه عليه السلام تنسم نسائم الفرج بعد أن رفع الأمر إلى مولاه عز وجل فقال ذلك: {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} [يوسف: 87] من رحمته بإرجاعهما إلى أو من رحمته تعالى بتوفيق يوسف عليه السلام برفع خجالتكم إذا وجدتموه {قَالُواْ يأَبَانَا أَيُّهَا العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} أرادوا ضر المجاعة ولو أنهم علموا وأنصفوا لقصدوا ضر فراقك فإنه قد أضر بأبيهم وبهم وبأهلهم لو يعلمون: كفى حزناً بالواله الصب أن يرى *** منازل من يهوى معطلة قفرا واعلم أن فيما قاله إخوة يوسف له عليه السلام من هنا إلى {المتصدقين} تعليم آداب الدعاء والرجوع إلى الأكابر ومخاطبة السادات فمن لم يرجع إلى باب سيده بالذلة والافتقار وتذليل النفس وتصغير ما يبدو منها وير أن ما من سيده إليه على طريق الصدقة والفضل لا على طريق الاستحقاق كان مبعداً مطروداً، وينبغي لعشاق جمال القدم إذا دخلوا الحضرة أن يقولوا: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا من ضر فراقك والبعد عن ساحة وصالك ما لا يحتمله الصم الصلاب: خليلي ما ألقاه في الحب إن يدم *** على صخرة صماء ينفلق الصخر ويقولوا: {جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} من أعمال معلولة وأفعال مغشوشة ومعرفة قليلة لم تحط بذرة من أنوار عظمتك وكل ذلك لا يليق بكمال عزتك وجلال صمديتك {فَأَوْفِ لَنَا} كيل قربك من بيادر جودك وفضلك {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] بنعم مشاهدتك فإنه إذا عومل المخلوق بما عومل فمعاملة الخالق بذلك أولى {قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ} خاطبوه بعد المعرفة بخطاب المودة لا بخطاب التكلف، وفيه من حسن الظن فيه عليه السلام ما فيه: إذا صفت المودة بين قوم *** ودام ولاؤهم سمج الثناء ويمكن أن يقال: إنهم لما عرفوه سقطت عنهم الهيبة وهاجت الحمية فلم يكلموه على النمط الأول، وقوله: {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِى} [يوسف: 90] جواب لهم لكن زيادة {وهذا أَخِى} قيل: لتهوين حال بديهة الحجل، وقيل: للإشارة إلى أن إخوتهم لا تعد إخوة لأن الإخوة الصحيحة ما لم يكن فيها جفاء، ثم إنه عليه السلام لما رأى اعترافهم واعتذارهم قال: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} [يوسف: 92] وهذا من شرائط الكرم فالكريم إذا قدر عفا: والعذر عند كرام الناس مقبول *** وقال شاه الكرماني: من نظر إلى الخلق بعين الحق لم يعبأ بمخالفتهم ومن نظر إليهم بعينه أفنى أيامه بمخاصمتهم، ألا ترى يوسف عليه السلام لما علم مجاري القضاء كيف عذر إخوته {اذهبوا بِقَمِيصِى هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} لما علم عليه السلام أن أباه عليه السلام لا يحتمل الوصال الكلي بالبديهة جعل وصاله بالتدريج فأرسل إليه بقميصه، ولما كان مبدأ الهم الذي أصابه من القميص الذي جاؤا عليه بدم كذب عين هذا القميص مبدأ للسرور دون غيره من آثاره عليه السلام ليدخل عليه السرور من الجهة التي دخل عليه الهم منها {وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93] كان كرم يوسف عليه السلام يقتضي أن يسير بنفسه إلى أبيه ولعله إنما لم يفعل لعلمه أن ذلك يشق على أبيه لكثرة من يسير معه ولا يمكن أن يسير إليه بدون ذلك أو لأن في ذلك تعطل أمر العامة وليس هناك من يقوم به غيره، ويحتمل أن يكون أوحى إليه بذلك لحكمة أخرى، وقيل: إن المعشوقية اقتضت ذلك، ومن رأى معشوقاً رحيماً بعاشقه؟، وفيه ما لا يخفى {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] يقال: إن ريح الصبا سألت الله تعالى فقالت: يا رب خصني أن أبشر يعقوب عليه السلام بابنه فأذن لها بذلك فحملت نشره إلى مشامه عليه السلام وكان ساجداً فرفع رأسه وقال ذلك وكان لسان حاله يقول: أيا جبلي نعمان بالله خليا *** نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها أجد بردها أو تشف مني حرارة *** على كبد لم يبق إلا صميمها فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت *** على نفس مهموم تجلت همومها وهكذا عشاق الحضرة لا يزالون يتعرضون لنفحات ريح وصال الأزل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات الرحمن» ويقال: المؤمن المتحقق يجد نسيم الإيمان في قلبه وروح المعرفة السابقة له من الله تعالى في سره، وإنما وجد عليه السلام هذا الريح حيث بلغ الكتاب أجله ودنت أيام الوصال وحان تصرم أيام الهجر والبلبال وإلا فلم لم يجده عليه السلام لما كان يوسف في الجب ليس بينه وبينه إلا سويعة من نهار وما ذلك إلا لأن الأمور مرهونة بأوقاتها، وعلى هذا كشوفات الأولياء فإنهم آونة يكشف لهم على ما قيل اللوح المحفوظ، وأخرى لا يعرفون ما تحت أقدامهم {فَلَمَّا أَن جَاء البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيرًا} [يوسف: 96] فيه إشارة إلى أن العاشق الهائم المنتظر لقاء الحق سبحانه إذا ذهبت عيناه من طول البكاء يجىء إليه بشير تجليه فيلقى عليه قميص أنسه في حضرات قدسه فيرتد بصيراً بشم ذلك فهنالك يرى الحق بالحق وينجلي الغين عن العين، ويقال: إنه عليه السلام إنما ارتد بصيراً حين وضع القميص على وجهه لأنه وجد لذة نفحة الحق تعالى منه حيث كان يوسف عليه السلام محل تجليه جل جلاله وكان القميص معبقاً بريح جنان قدسه فعاد لذلك نور بصره عليه السلام إلى مجاريه فأبصر {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} [يوسف: 98] وعدهم إلى أن يتعرف منهم صدق التوبة أو حتى يستأذن ربه تعالى في الاستغفار لهم فيأذن سبحانه لئلا يكون مردوداً فيه كما رد نوح عليه السلام في ولده بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] وقال بعضهم: وعدهم الاستغفار لأنه لم يفرغ بعد من استبشاره إلى استغفاره، وقيل: إنما أسرع يوسف بالاستغفار لهم ووعد يعقوب عليهما السلام لأن يعقوب كان أشد حباً لهم فعاتبهم بالتأخير ويوسف لم يرهم أهلاً للعتاب فتجاوز عنهم من أول وهلة أو اكتفى بما أصابهم من الخجل وكان خجلهم منه أقوى من خجلهم من أبيهم، وفي المثل كفى للمقصر حياء يوم اللقاء {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ ءاوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [يوسف: 99] لأنهما ذاقا طعم مرارة الفراق فخصهما من بينهم بمزيد الدنو يوم التلاق، ومن هنا يتبين أين منازل العاشقين يوم الوصال {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] حيث بان لهم أنواع جلال الله تعالى في مرآة وجهه عليه السلام وعاينوا ما عاينت الملائكة عليهم السلام من آدم عليه السلام حين وقعوا له ساجدين، وما هو إذا ذاك إلا كعبة الله تعالى التي فيها آيات بينات مقام إبراهيم {رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث فَاطِرَ السموات والارض أَنتَ وَلِيُّنَا *فِى الدنيا والاخرة تَوَفَّنِى مُسْلِمًا} مفوضاً إليك شأني كله بحيث لا يكون لي رجوع إلى نفسي ولا إلى سبب من الأسباب بحال من الأحوال {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} [يوسف: 101] بمن أصلحتهم لحضرتك وأسقطت عنهم سمات الخلق وأزلت عنهم رعونات الطبع، ولا يخفى ما في تقديمه عليه السلام الثناء على الدعاء من الأدب وهو الذي يقتضيه المقام {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106] قال غير واحد من الصوفية: من التفت إلى غير الله تعالى فهو مشرك، وقال قائلهم: ولو خطرت لي في سواك إرادة *** على خاطري سهواً حكمت بردتي {قُلْ هذه سَبِيلِى أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} بيان من الله تعالى وعلم لا معارضة للنفس والشيطان فيه {أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى} [يوسف: 108] وذكر بعض العارفين أن البصيرة أعلى من النور لأنها لا تصح لأحد وهو رقيق الميل إلى السوي، وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون عارفاً بطريق الإيصال إليه سبحانه عالماً بما يجب له تعالى وما يجوز وما يمتنع عليه جل شأنه، والدعاة إلى الله تعالى اليوم من هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم إلى الإرشاد بزعمهم أجهل من حمار الحكيم توما، وهم لعمري في ضلالة مدلهمة ومهامه يحار فيها الخريت وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ولبئس ما كانوا يصنعون {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالباب} [يوسف: 111] وهم ذوو الأحوال من العارفين والعاشقين والصابرين والصادقين وغيرهم، وفيها أيضاً عبرة للملوك في بسط العدل كما فعل يوسف عليه السلام، ولأه لـ التقوى في ترك ما تراودهم النفس الشهوانية عليه، وللمماليك في حفظ حرم السادة، ولا أحد أغير من الله تعالى ولذلك حرم الفواحش، وللقادرين في العفو عمن أساء إليهم ولغيرهم في غير ذلك ولكن أين المعتبرون؟ أشباح ولا أرواح وديار ولا ديار فإنا لله وإنا إليه راجعون هذا. وقد أول بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يوسف بالقلب المستعد الذي هو في غاية الحسن، ويعقوب بالعقل والإخوة بني العلات بالحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والقوة الشهوانية، وبنيامين بالقوة العاقلة العملية، وراحيل أم يوسف بالنفس اللوامة، وليا بالنفس الأمارة، والجب بقعر الطبيعة البدنية، والقميص الذي ألبسه يوسف في الجب بصفة الاستعداد الأصلي والنور الفطري، والذئب بالقوة الغضبية، والدم الكذب بأثرها، وابيضاض عين يعقوب بكلال البصيرة وفقدان نور العقل، وشراؤه من عزيز مصر بثمن بخس بتسليم الطبيعة له إلى عزيز الروح الذي في مصر مدينة القدس بما يحصل للقوة الفكرية من المعاني الفائضة عليها من الروح، وامرأة العزيز بالنفس اللوامة، وقد القميص من دبر بخرقها لباس الصفة النورية التي هي من قبل الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة، ووجدان السيد بالباب بظهور نور الروح عند إقبال القلب إليه بواسطة تذكر البرهان العقلي وورود الوارد القدسي عليه، والشاهد بالفكر الذي هو ابن عم امرأة العزيز أو بالطبيعة الجسمانية الذي هو ابن خالتها، والصاحبين بقوة المحبة الروحية وبهوى النفس، والخمر بخمر العشق، والخبز باللذات، والطير بطير القوى الجسمانية، والملك بالعقل الفعال، والبقرات بمراتب النفس، والسقاية بقوة الإدراك، والمؤذن بالوهم إلى غير ذلك، وطبق القصة على ما ذكر وتكلف له أشد تكلف وما أغناه عن ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره. {المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)} {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم المر} أخرج. ابن جرير. وأبو الشيخ عن ابن عباس أن معنى ذلك أنا الله أعلم وأرى وهو أحد أقوال مشهورة في مثل ذلك {تِلْكَ ءايات الكتاب} جعل غير واحد الكتاب بمعنى السورة وهو بمعنى المكتوب صادق عليها من غير اعتبار تجوز، والإشارة إلى آياتها باعتبار أنها لتلاوة بعضها والبعض الآخر في معرض التلاوة صارت كالحاضرة أو لثبوتها في اللوح أو مع الملك، والمعنى تلك الآيات السورة الكاملة العجيبة في بابها، واستفيد هذا على ما قيل من اللام، وذلك أن الإضافة بيانية فالمآل ذلك الكتاب، والخبر إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة وأن هذا المحكوم عليه اكتسب من الفضيلة ما يوجب جعله نفس الجنس وأنه ليس نوعاً من أنواعه. وحيث أنه في الظاهر كالممتنع أريد ذلك. وجوز أن يكون المرادب الكتاب القرآن، و{تِلْكَ} إشارة إلى آيات السورة، والمعنى آيات هذه السورة آيات القرآن الذي هو الكتاب العجيب الكامل الغني عن الوصف بذلك المعروف به من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب، والظاهر أن المراد جميعه. وجوز أن يراد به المنزل حينئذٍ، ورجح إرادة القرآن بأنه المتبادل من مطلق الكتاب المستغني عن النعت وبه يظهر جميع ما أريد من وصف الآيات بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمال بخلاف ما إذا جعل عبارة عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك المغنية عن التصريح بالوصف وفيه بحث، وأياً ما كان فلا محذور في حمل آيات الكتاب على تلك كما لا يخفى، وقيل: الإشارة بتلك إلى ما قص سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام من أنباء الرسل عليهم السلام المشار إليها في آخر السورة المتقدمة بقوله سبحانه: {ذلك مِنْ أَنبَاء الغيب} [يوسف: 102] وجوز على هذا أن يراد بالكتاب ما يشمل التوراة والإنجيل، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد. وقتادة. وجوز ابن عطية هذا على تقدير أن تكون الإشارة إلى المر مراداً بها حروف المعجم أيضاً وجعل ذلك مبتدأ أولاً و{تِلْكَ} مبتدأ ثانياً و{ءايات} خبره والجملة خبر الأول والرابط الإشارة، وأما قوله سبحانه وتعالى: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} فالظاهر أن الموصول فيه مبتدأ وجملة {أَنَزلَ} من الفعل ومرفوعه صلته {وَمِنْ رَبَّكَ} متعلق بأنزل {والحق} خبر، والمراد بالموصول عند كثير القرآن كله؛ والكلام استدراك على وصف السورة فقط بالكمال، وفي أسلوبه قول فاطمة الأنمارية وقد قيل لها: أي بنيك أفضل؟ ربيع بل عمارة بل قيس بل أنس ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل والله أنهم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها، وذلك كما أنها نفت التفاضل آخراً بإثبات الكمال لكل واحد دلالة على أن كمال كل لا يحيط به الوصف وهو إجمال بعد التفصيل لهذا الغرض، كذلك لما أثبت سبحانه لهذه السورة خصوصاً الكمال استدركه بأن كل المنزل كذلك لا يختص به سورة دون أخرى للدلالة المذكورة، وهو على ما قيل معنى بديع ووجه بليغ ذكره صاحب الكشاف، وقيل: إنه لتقرير ما قبله والاستدلال عليه لأنه إذا كان كل المنزل عليه حقاً ففذلك المنزل أيضاً حق ضرورة أنه من كل المنزل فهو كامل لأنه لا أكمل من الحق والصدق، ولخفاء أمر الاستدلال قال العلامة البيضاوي أنه كالحجة على ما قبله، ولعل الأول أولى ومع ذا لا يخلو عن خفاء أيضاً، ولو قيل: المراد بالكمال فيما تقدم الكمال الراجع إلى الفصاحة والبلاغة ويكون ذلك وصفاً للمشار إليه بالإعجاز من جهة ذلك، ويكون هذا وصفاً له بخصوصه على تقدير أن يكون فيه وضع الظاهر موضع الضمير أو لما يشمله وغيره على تقدير أن لا يكون فيه ذلك بكونه حقاً مطابقاً للواقع إذ لا تستدعي الفصاحة والبلاغة الحقية كما يشهد به الرجوع إلى المقامات الحريرية لم يبعد كل البعد فتدبر. وجوز الحوفي كون {مِن رَبّكَ} هو الخبر و{الحق} خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق أو خبر بعد خبر أو كلاهما خبر واحد كما قيل في الرمان حلو حامض، وهو إعراب متكلف، وجوز أيضاً كون الموصول في محل خفض عطفاً على {الكتاب} و{الحق} حينئذٍ خبر مبتدأ محذوف لا غير. قيل: والعطف من عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى كما قالوا في قوله: هو الملك القرام وابن الهمام *** البيت، وبعضهم يجعله من عطف الكل على الجزء أو من عطف أحد المترادفين على الآخر، ولكل وجهة، وإذا أريد بالكتاب ما روي عن مجاهد. وقتادة فأمر العطف ظاهر، وجوز أبو البقاء كون {الذى} نعتاً للكتاب بزيادة الواو في الصفة كما في أتاني كتاب أبي حفص والفاروق والنازلين والطيبين، وتعقب بأن الذي ذكر في زيادة الواو للإلصاق خصه صاحب المغني بما إذا كان النعت جملة، ولم نر من ذكره في المفرد. وأجاز الحوفي أيضاً كون الموصول معطوفاً على {ءايات} وجعل {الحق} نعتاً له وهو كما ترى. ثم المقصود على تقدير أن يكون الحق {خبر} مبتدأ مذكور أو محذوف قصر الحقية على المنزل لعراقته فيها وليس في ذلك ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلاً على أن حقيته مستتبعة لحقية سائر الكتب السماوية لكونه مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه، وساق بعض نفاة القياس هذه الآية بناءً على تضمنها الحصر في معرض الاستدلال على نفي ذلك فقالوا: الحكم المستنبط بالقياس غير منزل من عند الله تعالى وإلا لكان من يحكم به كافراً لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] وكل ما ليس منزلاً من عند الله تعالى ليس بحق لهذه الآية لدلالتها على أن لا حق إلا ما أنزله الله تعالى، والمثبتون لذلك أبطلوا ما ذكروه في المقدمة الثانية بأن المراد بالمنزل من الله تعالى ما يشمل الصريح وغيره فيدخل فيه القياس لاندراجه في حكم المقيس عليه المنزل من عنده سبحانه وقد جاء في المنزل صريحاً {فاعتبروا ياأولى أُوْلِى الابصار} [الحشر: 2] وهو دال على ما حقق في محله على حسن اتباع القياس على أنك قد علمت المقصود من الحصر. ويحتمل أيضاً على ما قيل أن يكون المراد هو الحق لا غيره من الكتب الغير المنزلة أو المنزلة إلى غيره بناءً على تحريفها ونسخها، وقد يقال: إن دليلهم منقوض بالسنة والإجماع، والجواب الجواب، ولا يخفى ما في التعبير عن القرآن بالموصول وإسناد الإنزال إليه بصيغة ما لم يسم فاعله، والتعرض لوصف الربوبية مضافاً إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من الدلالة على فخامة المنزل وتشريف المنزل والإيماء إلى وجه بناء الخبر ما لا يخفى {ولكن أَكْثَرَ الناس} قيل هم كفار مكة، وقيل: اليهود والنصارى والأولى أن يراد أكثرهم مطلقاً {لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك الحق المبين لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه فعدم إيمانهم كما قال شيخ الإسلام متعلق بعنوان حقيته لأنه المرجع للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونه منزلاً كما قيل ولأنه وارد على سبيل الوصف دون الإخبار.
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} {الله الذى رَفَعَ السموات} أي خلقهن مرتفعات على طريقة سبحان من كبر الفيل وصغر البعوض لا أنه سبحانه رفعها بعد إن لم تكن كذلك {بِغَيْرِ عَمَدٍ} أي دعائم، وهو اسم جمع عند الأكثر والمفرد عماد كإهاب وأهب يقال: عمدت الحائط أعمده عمداً إذا دعمته فاعتمد واستند، وقيل: المفرد عمود، وقد جاء أديم وأدم وقصيم وقصم، وفعيل وفعول يشتركان في كثير من الأحكام، وقيل: إنه جمع ورجح الأول بما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريباً. وقرأ أبو حيوة. ويحيى بن وثاب {عَمَدٍ} بضمتين، وهو جمع عماد كشهاب وشهب أو عمود كرسول ورسل ويجمعان في القلة على أعمدة، والجمع لجمع السموات لا لأن المنفي عن كل واحدة منها العمد لا العماد، والجار والمجرور في موضع الحال أي رفعها خالية عن عمد {تَرَوْنَهَا} استئناف لا محل له من الإعراب جىء به للاستشهاد على كون السموات مرفوعة كذلك كأنه قيل: ما الدليل على ذلك؟ فقيل: رؤيتكم لها بغير عمد فهو كقولك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني. ويحتمل أن يكون الاستئناف نحوياً بدون تقدير سؤال وجواب والأول أولى، وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من السموات أي رفعها مرئية لكم بغير عمد وهي حال مقدرة لأن المخاطبين حين رفعها لم يكونوا مخلوقين، وأياً ما كان فالضمير المنصوب للسموات. وجوز كون الجملة صفة للعمد فالضمير لها واستدل لذلك بقراءة أبي {ترونه} لأن الظاهر أن الضمير عليها للعمد وتذكيره حينئذٍ لائح الوجه لأنه اسم جمع فلوحظ أصله في الإفراد ورجوعه إلى الرفع خلاف الظاهر، وعلى تقدير الوصفية يحتمل توجه النفي إلى الصفة والموصوف على منوال: ولا ترى الضب بها ينجحر *** لأنها لو كانت لها عمد كانت مرئية وهذا في المعنى كالاستئناف، ويحتمل توجهه إلى الصفة فيفيد أن لها عمداً لكنها غير مرئية وروي ذلك عن مجاهد وغيره، والمراد بها قدرة الله تعالى وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، فيكون العمد على هذا استعارة. وأخرج ابن حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك. وزعم بعضهم أن العمد جبل قاف فإنه محيط بالأرض والسماء عليه كالقبة، وتعقبه الإمام بأنه في غاية السقوط وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يمكن أن يكون مراده في وجه ذلك، وأنا لا أرى ما قبله يصح عن ابن عباس، فالحق أن العمد قدرة الله تعالى، وهذا دليل على وجود الصانع الحكيم تعالى شأنه وذلك لأن ارتفاع السموات على سائر الأجسام المساوية لها في الجرمية كما تقرر في محله واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون لمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته. ورجح في «الكشف» استئناف الجملة بأن الاستدلال برفع هذه الأجرام دون عمد كاف، والاستشهاد عليه بكونه مشاهداً محسوساً تأكيد للتحقيق، ثم لا يخفى أن الضمير المنصوب في {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} إذا كان راجعاً إلى السموات المرفوعة اقتضى ظاهر الآية أن المرئي هو السماء. وقد صرح الفلاسفة بأن المرضي هو كرة البخار وثخنها كما قال صاحب التحفة أحد وخمسون ميلاً وتسع وخمسون دقيقة، والمجموع سبعة عشر فرسخاً وثلث فرسخ تقريباً، وذكروا أن سبب رؤيتها زرقاء أنها مستضيئة دائماً بأشعة الكواكب وما وراءها لعدم قبوله الضوء كالمظلم بالنسبة إليها فإذا نفذ نور البصر من الأجزاء المستنيرة بالأشعة إلى الأجزاء التي هي كالمظلم رأى الناظر ما فوقه من المظلم بما يمازجه من الضياء الأرضي والضياء الوكبي لوناً متوسطاً بين الظلام والضياء وهو اللون اللازوردي، وذلك كما إذا نظرنا من جسم أحمر مشف إلى جسم أخضر فإنه يظهر لنا لون مركب من الحمرة والخضرة. وأجمعوا أن السموات التي هي الأفلاك لا ترى لأنها شفافة لا لون لها لأنها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب وكل ملون فإنه يحجب عن ذلك. وتعقب ذلك الإمام الرازي بأنا لا نسلم أن كل ملون حاجب فإن الماء والزجاج ملونان لأنهما مرئيان ومع ذلك لا يحجبان. فإن قيل: فيهما حجب عن الإبصار الكامل قلنا: وكيف عرفتم أنكم أدركتكم هذه الكواكب إدراكاً تاماً انتهى، على أن ما ذكروه لا يتمشى في المحدد إذ ليس وراءه شيء حتى يرى ولا في الفلك الذي يسمونه بفلك الثوابت أيضاً إذ ليس فوقه كوكب مرئي وليس لهم أن يقولوا لوكان كل منهما ملوناً لوجب رؤيته لأنا نقول جاز أن يكون لونه ضعيفاً كلون الزجاج فلا يرى من بعيد ولئن سلمنا وجوب رؤية لونه قلنا: لم لا يجوز أن تكون هذه الزرقة الصافية المرئية لونه وما ذكر أولاً فيها دون إثباته كرة النار وما يقال: إنها أمر يحسن في الشفاف إذا بعد عمقه كما في ماء البحر فإنه يرى أزرق متفاوت الزرقة بتفاوت قعره قرباً وبعداً فالزرقة المذكورة لون يتخيل في الجو الذي بين السماء والأرض لأنه شفاف بعد عمقه لا يجدي نفعاً لأن الزرقة كما تكون لوناً متخيلاً قد تكون أيضاً لوناً حقيقياً قائماً بالأجساد، وما الدليل على أنها لا تحدث إلا بذلك الطريق التخيلي فجاز أن تكون تلك الزرقة المرئية لوناً حقيقياً لأحد الفلكين كذا قال بعض المحققين، وأنت تعلم أنه لا مانع عند المسلمين من كون المرئي هو السماء الدنيا المسماة بفلك القمر عند الفلاسفة بل هو الذي تقتضيه الظواهر، ولا نسلم أن ما يذكرونه من طبقات الهواء مانعاً، وهذه الزرقة يحتمل أن تكون لوناً حقيقياً لتلك السماء صبغها الله تعالى به حسبما اقتضته حكمته، وعليه الأثريون كما قال القسطلاني، ويؤيده ظاهر ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: " ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء "، وفي رواية «الأرض من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» ويحتمل أن يكون لوناً تخيلياً في طبقة من طبقات الهواء الشفاف الذي ملأ الله به ما بين السماء والأرض ويكون لها في نفسها لون حقيقي الله تعالى أعلم بكيفيته ولا بعد في أن يكون أبيض وهو الذي يقتضيه بعض الأخبار لكنا نحن نراها من وراء ذلك الهواء بهذه الكيفية كما نرى الشيء الأبيض من وراء جام أخضر أخضر، ومن وراء جام أزرق أزرق وهكذا، وجاء في بعض الآثار أن ذلك من انعكاس لون جبل قاف عليها. وتعقب بأن جبل قاف لا وجود له، وبرهن عليه بما يرده كما قال العلامة ابن حجر ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق أخرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، منها أن وراء أرضنا بحراً محيطاً ثم جبلاً يقال له قاف ثم أرضاً ثم بحراً ثم جبلاً وهكذا حتى عد سبعاً من كل، وخرج بعض أولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء، وعن مجاهد مثله. ونقل صاحب حل الرموز أن له سبع شعب وأن لكل سماء منها شعبة، وفي القلب من صحة ذلك ما فيه، بل أنا أجزم بأن السماء ليست محمولة إلا على كاهل القدرة، والظاهر أنها محيطة بالأرض من سائر جهاتها كما روي عن الحسن، وفي الزرقة الاحتمالان. بقي الكلام في رؤية باقي السموات وظاهر الآية يقتضيه وأظنك لا ترى ذلك وظاهر بعض الآيات يساعدك فتحتاج إلى القول بأن الباقي وإن لم يكن مرئياً حقيقة لكنه في حكم المرئي ضرورة أنه إذا لم يكن لهذا عماد لا يتصور أن يكون لما وراءه عماد عليه بوجه من الوجوه، ويؤل هذا إلى كون المراد ترونها حقيقة أو حكماً بغير عمد، وجوز أن يكون المراد ترون رفعها أي السموات جميعاً بغير ذلك. وفي «الكشف» ما يشير إليه؛ وإذا جعل الضمير للعمد فالأمر ظاهر فتدبر، ومن البعيد الذي لا نراه زعم بعضهم أن {تَرَوْنَهَا} خبر في اللفظ ومعناه الأمر روها وانظروا هل لها من عمد {ثُمَّ استوى} سبحانه استواء يليق بذاته {عَلَى العرش} وهو المحدد بلسان الفلاسفة، وقد جاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول، وجعل غير واحد من الخلف الكلام استعارة تمثيلية للحفظ والتدبير، وبعضهم فسر استوى باستولى، ومذهب السلف في ذلك شهير ومع هذا قد قدمنا الكلام فيه، وأياً ما كان فليس المراد به القصد إلى إيجاد العرش كما قالوا في قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات} [البقرة: 29] لأن إيجاده قبل إيجاد السموات، ولا حاجة إلى إرادة ذلك مع القول بسبق الإيجاد وحمل {ثُمَّ} على التراخي في الرتبة، نعم قال بعضهم: إنها للتراخي الرتبي لا لأن الاستواء بمعنى القصد المذكور وهو متقدم بل لأنه صفة قديمة لائقة به تعالى شأنه وهو متقدم على رفع السموات أيضاً وبينهما تراخ في الرتبة {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منها {كُلٌّ} من الشمس والقمر {يَجْرِى} يسير في المنازل والدرجات {لاِجَلٍ مُّسَمًّى} أي وقت معين، فإن الشمس تقطع الفلك في سنة والقمر في شهر لا يختلف جري كل منهما كما في قوله تعالى: {والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا والقمر قدرناه مَنَازِلَ} [يس: 38، 39] وهو المروى عن ابن عباس، وقيل: أي كل يجري لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره وهي {إِذَا الشمس كُوّرَتْ وَإِذَا النجوم انكدرت} [التكوير: 1، 2] وهذا مراد مجاهد من تفسير الأجل المسمى بالدنيا، قيل: والتفسير الحق ما روى عن الحبر، وأما الثاني: فلا يناسب الفصل به بين التسخير والتدبير. ثم إن غايتهما متحدة والتعبير بكل يجري صريح في التعدد وما للغاية {إلى} دون اللام، ورد بأنه إن أراد أن التعبير بذلك صريح في تعدد ذي الغاية فمسلم لكن لا يجد به نفعاً، وإن أراد صراحته في تعدد الغاية فغير مسلم، واللام تجيء بمعنى إلى كما في المغنى وغيره. وأنت تعلم لا يفيد أكثر من صحة التفسير الثاني، فافهم، وما أشرنا إليه من المراد من كل هو الظاهر، وزعم ابن عطية أن ذكر الشمس والقمر قد تضمن ذكر الكواكب فالمراد من كل كل منهما ومما هو في معناهما من الكواكب والحق ما علمت {يُدَبّرُ الامر} أي أمر العالم العلوي والسفلي، والمراد أنه سبحانه يقضي ويقدر ويتصرف في ذلك على أكمل الوجوه وإلا فالتدبير بالمعنى اللغوي لاقتضائه التفكر في دبر الأمور مما لا يصح نسبته إليه تعالى: {يُفَصّلُ الآيات} أي ينزلها ويبينها مفصلة، والمراد بها آيات الكتب المنزلة أو القرآن على ما هو المناسب لما قبل، أو المراد بها الدلائل المشار إليها فيما تقدم وبتفصيلها تبيينها، وقيل إحداثها على ما هو المناسب لما بعد. والجملتان جوز أن يكونا مستأنفتين وأن يكونا حالين من ضمير {استوى} وسخر من تتمته بناء على أنه جيء به لتقرير معنى الاستواء وتبيينه أو جملة مفسرة له، وجوز أن يكون {يُدَبّرُ} حالاً من فاعل {سَخَّرَ} و{يُفَصّلُ} حالاً من فاعل {يُدَبّرُ}، و{الله الذى} الخ على جميع التقادير مبتدأ وخبر، وجوز أن يكون الاسم الجليل مبتدأ والموصول صفته وجملة {يُدَبّرُ} خبره وجملة {يُفَصّلُ} خبراً بعد خبر، ورجح كون ذلك مبتدأ وخبراً في «الكشف» بأن قوله تعالى الآتي: {وَهُوَ الذى مَدَّ الارض} [الرعد: 3] عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات وفي المقابل تتعين الخبرية فكذلك في المقابل ليتوافقا، ولدلالته على أن كونه كذلك هو المقصود بالحكم لا أنه ذريعة إلى تحقيق الخبر وتعظيمه كما في الوجه الآخر، ثم قال: وهو على هذا جملة مقررة لقوله سحبانه: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ هُوَ الحق} [الرعد: 1] وعدل عن ضمير الرب إلى الاسم المظهر الجامع لترشيح التقرير كأنه قيل: كيف لا يكون منزل من هذه أفعاله الحق الذي لا أحق منه، وفي الإتيان بالمبتدأ والخبر معرفتين ما يفيد تحقيق إن هذه الأفعال أفعاله دون مشاركة لا سيما وقد جعلت صلات للموصول، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفا مفيداً تحقيق كونه تعالى مدبراً مفصلاً مع التعظيم لشأنهما كما في قول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعز وأطول وتقدم ذكر الآيات ناصر ضعيف لأن الآيات في الموضعين مختلفة الدلالة ولأن المناسب حينئذ تأخره عن قوله تعالى: {وَهُوَ الذى مَدَّ} [الرعد: 3] الخ، على أن سوق تلك الصفات أعني رفع السموات وما تلاه للغرض المذكور وسوق مقابلاتها لغرض آخر منافر، وفي الأول روعي لطيفة في تعقيب الأوائل بقوله سبحانه: {يُدَبّرُ يُفَصّلُ} للايقان والثواني بقوله تعالى: {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3] أي من فضل السوابق لإفادتها اليقين واللواحق ذرائع إلى حصوله لأن الفكر إلته والإشارة إلى تقديم الثواني بالنسبة إلينا مع التأخر رتبة وذلك فائت على الوجه الآخر اه وهو من الحسن بمكان فيما أرى، ولا تنافى كما قال الشهاب بين الوجهين باعتبار أن الوصفية تقتضي المعلومية والخبرية تقتضي خلافها لأن المعلومية عليهما والمقصود بالإفادة قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ} أي لكم تتفكروا وتحققوا كمال قدرته سبحانه فتعلموا أن من قدر على ذلك قدر على الإعادة والجزاء، وحاصله أنه سبحانه فعل كل ذلك لذلك، وعلى الوجه الآخر فعل الأخيرين لذلك مع أن الكل له ثم قال: وهذ مما يرجح الوجه الأول أيضاً كما يرجحه أنه تبيين الآيات وهي الرفع وما تلاه فإنه ذكرها ليستدل بها على قدرته تعالى وعلمه ولا يستدل بها إلا إذا كانت معلومة فيقتضي كونها صفة. فإن قيل: لا بد في الصلة أن تكون معلومة سواء كانت صفة أو خبراً يقال: إذا كان ذلك صلة دل على انتساب الآيات إلى الله تعالى وإذا كان خبراً دل على انتسابها إلى موجود مبهم وهو غير كاف في الاستدلال فتأمل. وقرأ النخعي وأبو رزين. وأبان بن تغلب عن قتادة {كذلك نُفَصّلُ} بالنون فيهما؛ وكذا روى أبو عمرو الداني عن الحسن ووافق في {نُفَصّلُ} بالنون الخفاف. وعبد الوهاب عن أبي عمرو، وهبيرة عن حفص، وقال صاحب اللوامح: جاء عن الحسن. والأعمش {نُفَصّلُ} بالنون، وقال المهدوي: لم يختلف في {يُدَبّرُ} وليس كما قال لما سمعت، ثم أنه تعالى لما ذكر من الشواهد العلوية ما ذكر أردفها بذكر الدلائل السفلية فقال عز شأنه:
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} {وَهُوَ الذى مَدَّ الارض} أي بسطها طولاً وعرضاً، قال الأصم: البسط المد إلى ما لا يرى منتهاه، ففيه دلالة على بعد مداها وسعة أقطارها، وقيل: كانت مجتمعة فدحاها من مكة من تحت البيت، وقيل: كانت مجتمعة عند بيت المقدس فدحاها وقال سبحانه لها: اذهبي كذا وكذا وهو المراد بالمد، ولا يخفى أنه خلاف ما يقتضيه المقام. واستدل بالآية على أنها مسطحة غير كرية، والفلاسفة مختلفون في ذلك فذهب فريق منهم إلى أنها ليست كرية وهؤلاء طائفتان. فواحدة تقول: إنها محدبة من فوق مسطحة من أسفل فهي كقدح كب على وجه الماء. وأخرى تقول بعكس ذلك، وذهب الأكثرون منهم إلى أنها كرية أما في الطول فلأن البلاد المتوافقة في العرض أو التي لا عرض لها كلما كانت أقرب إلى الغرب كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متأخراً بنسبة واحدة ولا يعقل ذلك إلا في الكرة، وأما في العرض فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعاً عليه بحسب إيغاله فيه على نسبة واحدة بحيث يراه قريباً من سمت رأسه وكذلك تظهر له الكواكب الشمالية وتخفى عنه الكواكب الجنوبية، والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك، وأما فيما بينهما فلتركب الأمرين. وأورد عليهم الاختلاف المشاهد في سطحها فأجابوا عنه بأن ذلك لا يقدح في أصل الكرية الحسية المعلومة بما ذكر، فإن نسبة ارتفاع أعظم الجبال على ما استقر عليه استقراؤهم وانتهت إليه آراؤهم وهو جبل دماوند فيما بين الري وطبرستان أو جبل في سرنديب إلى قطر الأرض كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع. واعترض ذلك بأنه هب أن ما ذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور في الماء؟ فإن قالوا: إذا كان الظاهر كرياً فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة. قلنا: فالمرجع حينئذ إلى البساطة واقتضاؤها الكرية الحقيقية ولا شك أنه يمنعها التضاريس وإن لم تظهر للحس لكونها في غاية الصغر، لكن أنت تعلم أن أرباب التعليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور ولا يليق بهم الجواب بالرجوع إلى البساطة، والحق الذي لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل إن ما ظهر منها كري حساً، ولذلك كرية الفلك تختلف أوقات الصلاة في البلاد فقد يكون الزوال ببلد ولا يكون ببلد آخر وهكذا الطلوع والغروب وغير ذلك، وكرية ما عدا ما ذكر لا يعلمها إلا الله تعالى. نعم إنها لعظم جرمها الظاهر يشاهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح وهكذا كل دائرة عظيمة؛ وبذلك يعلم أنه لا تنافي بين المد وكونها كرية. وزعم ابن عطية أن ظاهر الشريعة يقتضي أنها مسطحة وكأنه يقول بذلك وهو خلاف ما يقتضيه الدليل. وهي عندهم ثلاث طبقات الطبقة الصرفة المحيطة بالمركز ثم الطبقة الطينية ثم الطبقة المخالفة التي تتكون فيها المعادن وكثير من النباتات والحيوانات، والصرفة منها غير ملونة عند بعضهم، ومال ابن سينا إلى أنها ملونة، واحتج عليه بأن الأرض الموجودة عندنا وإن كانت مخلوطة بغيرها ولكنا قد نجد فيها ما يكون الغالب عليه الأرضية فلو كانت الأرض البسيطة شفافة لكان يجب أن نرى في شيء من أجزاء الأرض مما ليس متكوناً تكوناً معدنياً شيأ فيه إشفاف ولكان حكم الأرض في ذلك حكم الماء والهواء فإنهما وإن امتزجا إلا أنهما ما عدما الاشفاف بالكلية. واختلف القائلون بالتلون فمنهم من قال: إن لونها هو الغبرة، ومنهم من زعم أنه السواد وزعم أن الغبرة إنما تكون إذا خالطت الأجزاء الأرضية أجزاء هوائية فبسببها ينكسر ويحصل الغبرة، وأما إذا اجتمعت تلك الأجزاء بحيث لا يخالطها كثير هوائية اشتد السواد وذلك مثل الفحم قبل أن يترمد فإن النار لا عمل لها إلا في تفريق المختلفات فهي لما حللت ما في الخشب من الهوائية واجتمعت الأجزاء الأرضية من غير أن يتخللها شيء غريب ظهر لون أجزائها وهو السواد، ثم إذا رمدته اختلطت بتلك الأجزاء أجزاء هوائية فلا جرم أبيضت مرة أخرى. والذي صح في الخبر وقد سبق إطلاق الغبراء على الأرض وهو محتمل لأن تكون سائر طبقاتها كذلك ولأن يكون وجهها الأعلى كذلك، نعم جاء في بعض الآثار أن في أسفل الأرض تراباً أبيض وما ذكر من الطبقات مما لا يصادم خبراً صحيحاً في ذلك، وكونها سبع طبقات بين كل طبقة وطبقة كما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفي كل خلق غير مسلم، {وَمِنَ الارض مّثْلُهنْ} [الطلاق: 12] لا يثبته كما ستعلم إن شاء الله تعالى، والخبر في ذلك غير مسلم الصحة أيضاً، ومثل ذلك فيما أرى ما روى عن كعب أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أن الله تعالى جعل مسيرة ما بين المشرق والمغرب خمسمائة سنة فمائة سنة في المشرق لا يسكنها شيء من الحيوان لا جن ولا إنس ولا دابة وليس في ذلك شجرة ومائة سنة في المغرب كذلك وثلثمائة سنة فيما بين المشرق والمغرب يسكنها الحيوان، وكذا ما أخرجه ابن حاتم عن عبد الله بن عمر من أن الدنيا مسيرة خمسمائة عام أربعمائة عام خراب ومائة عمران، والمقرر عند أهل الهندسة والهيئة غير هذا. فقد ذكر القدماء منهم أن محيط دائرة الأرض الموازية لدائرة نصف النهار ثمانية آلاف فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة واحدة وهي عندهم اثنان وعشرون فرسخاً وتسعا فرسخ في ثلثمائة وستين محيط الدائرة العظمى على الأرض، والمتأخرون أن ذلك ستة آلاف وثمانمائة فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة وهي عندهم تسعة عشر فرسخاً إلا تسع فرسخ في المحيط المذكور، وعلى القولين التفاوت بين ما يقوله المهندسون ومن معهم وما نسب لغيرهم ممن تقدم أمر عظيم والحق في ذلك مع المهندسين. وزعموا أن الموضع الطبيعي للأرض هو الوسط من الفلك وأنها بطبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماءة ساكنة في حاق الوسط منه لكن لما حصل في جانب منها تلال وجبال ومواضع عالية وفي جانب آخر ضد ذلك لأسباب ستسمعها بعد إن شاء الله تعالى وكان من طبع الماء أن يسيل من المواضع العالية إلى المواضع العميقة لا جرم انكشف الجانب المشرف من الأرض وسال المال إلى الجوانب العميقة منها. وللكواكب في زعمهم تأثير في ذلك بحسب المسامتات التي تتبدل عند حركاتها خصوصاً الثواب والأوجات والحضيضات المتغيرة في أمكنتها. وحكم أصحاب الأرصاد أن طول البر المنكشف نصف دور الأرض وعرضه أحد أرباعها إلى ناحية الشمال، وفي تعيين أي الربعين الشماليين منكشف تعذر أو تعسر كما قال صاحب التحفة، وأما ما عدا ذلك فقال الإمام: لم يقم دليل على كونه مغموراً في الماء ولكن الأشبه ذلك إذ الماء أكثر من الأرض أضعافاً لأن كل عنصر يجب أن يكون بحيث لو استحال بكليته إلى عنصر آخر كان مثله، والماء يصغر حجمه عند الاستحالة أرضاً ومع ذلك لو كان في بعض المواضع في الأرباع الثلاثة عمارة قليلة لا يعتد بها، وأما تحت القطبين فلا يمكن أن يكون عمارة لاشتداد البرد: وإنما حكموا بأن المعمور الربع لأنهم لم يجدوا في إرصاد الحوادث الفلكية كالخصوفات وقرانات الكواكب التي لا اختلاف منظر لها تقدماً في ساعات الواغلين في المشرق لتلك الحوادث على ساعات الواغلين في المغرب زائداً على اثنتي عشرة ساعة مستوية وهي نصف الدور لأن كل ساعة خمسة عشر جزأ من أجزاء معدل النهار تقريباً وضرب خمسة عشر في اثني عشر مائة وثمانون. ونحن نقول بوجود الخراب وأنه أكثر من المعمور بكثير وأكثر المعمور شمالي ولا يوجد في الجنوب منه إلا مقدار يسير، لكنا نقول: ما زعموه سبباً للانكشاف غير مسلم ونسند كون الأرض بحيث وجدت صالحة لسكنى الحيوانات وخروج النبات إلى قدرته تعالى واختياره سبحانه وإلا فمن أنصف علم أن لا سبيل للعقل إلى معرفة سبب ذلك على التحقيق وقال: أنه تعالى فعل ذلك في الأرض لمجرد مشيئته الموافقة للحكمة. {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} أي جبالاً ثوابت في إحيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة ولم يذكر الموصوف لا غناء غلبة الوصف بها عن ذلك، وفواعل يكون جمع فاعل إذا كان صفة مؤنث كحائص أو صفة ما لا يعقل مذكر كجمل بازل وبوازل أو اسماً جامداً أو ما جرى مجراه كحائط وحوائط وانحصار مجيئه جميعاً لذلك في فوارس وهوالك ونواكس إنما هو في صفات العقلاء لا مطلقاً، والجمع هنا في صفة ما لا يعقل، قيل: فلا حاجة إلى جعل المفرد هنا راسية صفة لجمع القلة أعني أجبلاً ويعتبر في جميع الكثرة أعني جبالاً انتظامه لطائفة من جموع القلة وينزل كل منها منزلة مفرده كما قيل، على أنه لا مجال لذلك لأن جمعية كل من صيغتي الجمعين إنما هي لشمول الأفراد باعتبار شمول جمع القلة للأفراد وجمع الكثرة لجموع القلة فكل منهما جمع جبل لا أن جبالاً جمع أجبل اه. وتعقب بأنه لعل من قال: إن الرواسي هنا جمع راسية صفة أجبل لا يلتزم ما ذكر وأنه إذا صح إطلاق أجبل راسية على جبال قطر مثلاً صح إطلاق الجبال على جبال جميع الأقطار من غير اعتبار جعل الجبال جميعاً لجموع القلة نعم لا يصح أن يكون جبال جمع أجبل لأنه يصير حينئذ جمع الجمع وهو خلاف ما صرح به أهل اللغة. وجعل راسية صفة جبل لا أجبل والتاء فيه للمبالة لا للتأنيث كما في علامة يرد عليه أن تاء المبالغة في فاعلة غير مطرد. وقال أبو حيان: إنه غلب على الجبال وصفها بالرواسي ولذا استغنوا بالصفة عن الموصوف وجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وهو مما لا حاجة إليه لما سمعت، وأورد عليه أيضاً أن الغلبة تكون بكثرة الاستعمال والكلام في صحته من أول الأمر ففيما ذكر دور، وأجيب بأن كثرة استعمال الرواسي غير جار على موصوف يكفي لمدعاه وفيه تأمل، وكذا لا حاجة إلى ما قيل: إنه جمع راسية صفة جبل مؤنث باعتبار البقعة وكل ذلك ناشيء من الغفلة عما ذكره محققو علماء العربية، هذا والتعبير عن الجبال بهذا العنوان لبيان تفرع قرار الأرض على ثباتها، وفي «الخبر» " لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تميد فخلق الله تعالى الجبال عليها فاستقرت فقالت الملائكة: ربنا خلقت خلقاً أعظم من الجبال؟ قال: نعم الحديد، فقالوا: ربنا خلقت خلقاً أعظم من الحديث؟ قال: نعم النار، فقالوا: ربنا خلقت خلقاً أعظم من النار؟ قال: نعم الماء فقالوا: ربنا خلقت خلقاً أعظم من الماء؟ قال: نعم الهواء، فقالوا: ربنا خلقت خلقاً أعظم من الهواء؟ قال نعم ابن آدم يتصدق الصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله " وأول جبل وضع على الأرض كما أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء أبو قبيس، ومجموع ما يرى عليها من الجبال مائة وسبعة وثمانون جبلاً وأبى الفلاسفة كون استقرار الأرض بالجبال واختلفوا في سبب ذلك فالقائلون بالكرية منهم من جعله جذب الفلك لها من جميع الجوانب فيلزم أن تقف في الوسط كما يحكى عن صنم حديدي في بيت مغناطيسي الجوانب كلها فإنه وقف في الوسط لتساوي الجذب من كل جانب. ورد بأن الأصغر أسرع انجذاباً إلى الجاذب من الأكبر فما بال المدرة لا تنجذب إلى افلك بل تهرب عنه إلى المركز، وأيضاً إن الأقرب أولى بالانجذاب من الأبعد فالمدرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب على أصلهم فكان يجب أن لا تعود، ومنهم من جعله دفع الفلك بحركته لها من كل الجوانب كما إذا جعل شيء من التراب في قارورة كرية ثم أديرت على قطبيها إدارة سريعة فإنه يعرض وقوف التراب في وسطها لتساوي الدفع من كل جانب ورد بأن الدفع إذا كانت قوته هذه القوة فما باله لا يحس به، وأيضاً ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة الرياح والسحب إلى جهة بعينها، وأيضاً ما باله لم يجعل انتقالنا إلى المغرب أسهل من انتقالنا إلى المشرق، وأيضاً يجب أن تكون حركة الثقيل كلما كان أعظم أيضاً لأن اندفاع الأعظم من الدافع أبطأ من اندفاع الأصغر، وأيضاً يجب أن تكون حركة الثقيل النازل ابتداء أسرع من حركته انتهاء لأنه عند الابتداء أقرب إلى الفلك، وغير القائلين بها منهم من جعلها غير متناهية من جانب السفل وسبب سكونها عندهم أنها لم يكن لها مهبط تنزل فيه، ويرد دليل تناهي الأجسام، ومنهم من قال بتناهيها وجعل السبب طفوها على الماء إما مع كون محدبها فوق ومسطحها أسفل وأما مع العكس، ورد بأن مجرد الطوف لا يقتضي السكون على أن فيه عند الفلاسفة بعدما فيه، وذهب محققوهم إلى أن سكونها لذاتها لا لسبب منفصل، قال في المباحث المشرقية: والوجه المشترك في إبطال ما قالوا في سبب السكون أن قال: جميع ما ذكرتموه من الجذب والدفع وغيرهما أمور عارضة وغير طبيعية ولا لازمة للماهية فيصح فرض ماهية الأرض عارية عنها فإذا قدرنا وقوع هذا الممكن فأما أن تحصل في حيز معين أو لا تحصل فيه وحينئذ إما أن تحصل في كل الأحياز أو لا تحصل في شيء منها والأخيران ظاهرا الفساد فتعين الأول وهو أن تختص بحيز معين ويكون ذلك لطبعها المخصوص ويكون حينئذ سكونها في الحيز لذاتها لا لسبب منفصل، وإذا عقل ذلك فليعقل في اختصاصها بالمركز أيضاً، ثم ذكر في تكون الجبال مباحث. الأول: الحجر الكبير إنما يتكون لأن حراً عظيماً يصادف طيناً لزجاً إما دفعة أو على سبيل التدريج. وأما الارتفاع فله سبب بالذات وسبب بالعرض، أما الأول: فكما إذا نقلت الريح الفاعلة للزلزلة طائفة من الأرض وجعلتها تلا من التثلاث، وأما الثاني: فإن يكون الطين بعد تحجره مختلف الأجزاء في الرخاوة والصلابة وتتفق مياه قوية الجري أو رياح عظيمة الهبوب فتحفر الأجزاء الرخوة وتبقى الصلبة ثم لا تزال السيول والرياح تؤثر في تلك الحفر إلى أن تغور غوراً شديد ويبقى ما تنحرف عنه شاهقاً، والأشبه أن هذه المعمورة قد كانت في سالف الدهر مغمورة في البحار فحصل هناك الطين اللزج الكثير ثم حصل بعد الانكشاف وتكونت الجبال، ومما يؤيد هذا الظن في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف ثم لما حصلت الجبال وانتقلت البحار حصل الشهوق إما لأن السيول حفرت ما بين الجبال وإما لأن ما كان من هذه المنكشفات أقوى تحجراً وأصلب طينة إذا أنهد ما دونه بقي أرفع وأعلى، إلا أن هذه أمور لا تتم في مدة تفي التواريخ بضبطها. والثاني: سبب عروق الطين في الجبال يحتمل أن يكون من جهة ما تفتت منها وتترب وسالت عليه المياه ورطبته أو خلطت به طينها الجيد، وأن يكون من جهة أن القديم من طين البحر غير متفق الجوهر منه ما يقوي تحجره ومنه ما يضعف؛ وأن يكون من جهة أنه يعرض للبحر أن يفيض قليلاً قليلاً على سهل وجبل فيعرض للسهل أن يصير طيناً لزجاً مستعداً للتحجر القوي وللجبل أن يتفتت كما إذا نقعت آجرة وتراباً في الماء ثم عرضت الآجرة والطين على النار فإنه حينئذ تتفتت الآجرة ويبقى الطين متحجراً. والثالث: قد نرى بعض الجبال منضوداً ساقاً فساقا فيشبه أن يكون ذلك لأن طينته قد ترتبت هكذا بأن كان ساق قد ارتكم أولاً ثم حدث بعده في مدة أخرى ساق آخر فارتكم وكان قد سال على كل ساق من خلاف جوهره فصار حائلاً بينه وبين الساق الآخر فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن أنتثر عما بين الساقين. هذا وتعقب ما ذكروه في سبب التكون بأنه لا يخفى أن اختصاص بعض من أجزاء الأرض بالصلابة وبعض آخر منها بالرخاوة مع استواء نسبة تلك الأجزاء كلها إلى الفلكيات التي زعموا أنها المعدات لها قطعاً للمجاورة والملاصقة الحاصلة بين الأجزاء الرخوة والصلبة يستدعي سبباً مخصصاً وعند هذا الاستدعاء يقف العقل ويحيل ذلك الاختصاص على سبب من خارج هو الفاعل المختار جل شأنه فليت شعري لم لم يفعل ذلك أولاً حذفاً للمؤنة. نعم لا يبعد أن يكون ذلك من أسباب تكونها بإرادة الله تعالى عند من يقول من المليين وغيرهم بالوسائط لا عند الأشاعرة إذ الكل عندهم مستند إليه سبحانه ابتداء فلا يتصور واسطة حقيقة على رأيهم وما ذكر من الأسباب أمور لا تفيد إلا ظناً ضعيفاً. وحديث رؤية أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف كذلك أيضاً فإنا كثيراً ما نرى ذلك في مواضع المطر. وقد أخبرني من أثق به أنه شاهد ضفادع وقعت مع المطر، على أن ذلك لا يتم على تقدير أن يكون المكشوف من الأرض قد انكشف في مبدأ الفطرة ولم يكن مغموراً بالماء ثم انكشف، وهو مما ذهب إليه بعض محققي الفلاسفة أيضاً. واعترضوا على القائلين بأن الانكشاف قد حصل بعد بأن أقوى أدلته أن حضيض الشمس في جانب الجنوب فقرب الشمس إلى الأرض هناك أكثر من جانب الشمال بقدر ثخن المتمم من ممثلها فتشتد بذلك الحرارة هناك فانجذب الماء من الشمال انعكس الأمر. ويرد عليه أنه لوكان كذلك لكان الربع الشمالي الآخر أيضاً مكشوفاً إذ لا فرق بين الربعين في ذلك وفي التزام ذلك بعد على أنه لم يلتزمه أحد. ثم إن وجود الجبال في المغمور وجودها في المعمور يستدعي أنه كان معموراً وأن الحضيض في غير جهته اليوم وهو قول بأن البر لا يزال يكون بحراً والبحر لا يزال يكون براً بتبدل جهتي الأوج والحضيض فيكون المنكشف تارة جانب الشمال وأخرى جانب الجنوب وحيث إن ذلك إنما يكون على سبيل التدريج يقتضي أن نشاهد اليوم شيئاً من جانب الجنوب منكشفاً ومن جانب الشمال مغموراً ولا نظن وجود ذلك ولو كان لاشتهر، فإن أوج الشمس اليوم في عاشرة السرطان وحركته في كل سنة دقيقة تقريباً فيكون من الوقت الذي انتقل فيه من الجانب الشمالي إلى اليوم آلاف عديدة من السنين يغمر فيها كثير ويعمر كثير. نعم يحكى أن جزيرة قبرس كانت متصلة بالبر ثم حال البحر بينهما لكنه على تقدير ثبوته ليس مما نحن فيه ولا نسلم أن يكي دنيا مما حدث انكشافها لجواز أن تكون منكشفة من قبل، فالحق أن هذا البر بعد أن وجد لم يصر بحراً وهذا البحر المحيط بعد أن أحاط لم يصر براً وهو الذي تقتضيه الأخبار الإلهية والآثار النبوية. نعم جاء في بعض الآثار ما ظاهره أن الأرض المسكونة كانت مكشوفة في مبدأ الفطرة كأثر الياقوتة، وفي بعض آخر منها ما ظاهره أنها كانت مغمورة كخبر ابن عباس أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخلق أمر الريح فأبدت عن حشفة ومنها دحية الأرض ما شاء الله تعالى في الطول والعرض فجعلت تميد فجعل عليها الجبال الرواسي، وفي التوراة ما هو نص في ذلك ففي أول سفر الخليقة منها أول ما خلق الله تعالى السماء والأرض وكانت الأرض غامرة مستبحرة وكان هناك ظلام وكانت رياح الإله تهب على وجه الماء فشاء الله تعالى أن يكون نور فكان ثم ذكر فيه أنه لما مضى يوم ثان شاء الله تعالى أن يجتمع الماء من تحت السماء إلى موضع واحد ويظهر اليبس فكان كذلك وسمى الله سبحانه اليبس أرضاً ومجتمع الماء بحاراً، وفيه أيضاً إن خلق النيرين كان في اليوم الثالث، وهو آب عن جعل سبب الانكشاف ما سمعت عن قرب من قرب الشمس، وما أشارت إليه هذه الآية ونطق به غيرها من الآيات من كون الجبال سبباً لاستقرار الأرض وأنها لولاها لمادت أمر لا يقوم على أصولنا دليل يأباه فنؤمن به وإن لم نعلم ما وجه ذلك على التحقيق، ويحتمل أن يكون وجهه أن الله تعالى خلق الأرض حسبما اقتضته حكمته صغيرة بالنسبة إلى سائر الكرات وجعل لها مقداراً من الثقات معيناً ووضعها في المكان الذي وضعها فيه من الماء وأظهر منها ما أظهر وليس ذلك إلا بسبب مشيئته تعالى التابعة لحكمته سبحانه لا لأمر اقتضاه ذاتها فجعلت تميد لاضطراب أمواج البحر المحيط بها فوضع عليها من الجبال ما ثقلت به بحيث لم يبق للأمواج سلطان عليها وهذا كما يشاهد في السفن حيث يضعون فيها ما يثقلها من أحجار وغيرها لنحو ذلك، وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إليها النسبة السابقة لا يضرنا في هذا المقام لأن الحجم أمر والثقل أمر آخر فقد يكون ذو الحجم الصغير أثقل من ذي الحجم الكبير بكثير، لا يقال: إن خلقها ابتداء بحيث لا تزحزحها الأمواج كان ممكناً فلم لم يفعله سبحانه وتعالى بل خلقها بحيث تحركها الأمواج ثم وضع عليها الجبال لدفع ذلك؟ لأنا نقول إنما فعل سبحانه هكذا لما فيه من الحكم التي هو جل شأنه بها أعلم، وهذا السؤال نظير أن يقال: إن خلق الإنسان ابتداء بحيث لا يؤثر فيه الجوع والعطش مثلاً شيئاً كان ممكناً فلم لم يفعله تعالى بل خلقه بحيث يؤثران فيه ثم خلق له ما يدفع به ذلك ليدفعه به وله نظائر بعد كثيرة، وليس ذلك إلا ناشئاً عن الغفلة عما يترتب على ما صدر منه تعالى من الحكم، ولعل الحكمة فيما نحن فيه إظهار مزيد عظمته جلت عظمته للملائكة عليهم السلام فإن ذلك مما يوقظ جفن الاستعظام ألا تراهم كيف قالوا حين رأوا ما رأوا ربنا خلقت خلقاً أعظم من الجبال الخ. ويقال لمن لم يؤمن بهذا بين أنت لنا حكمة تقدم بعض الأشياء على بعض في الخلق كيفما كان التقدم وكذا حكمة خلق الإنسان ونحوه محتاجاً وخلق ما يزيل احتياجه دون خلقه ابتداء على وجه لا يحتاج معه إلى شيء، فإن بين يئاً قلنا بمثله فيما نحن فيه، ثم إنا نقول: ليس حكمة خلق الجبال منحصرة في كونها أوتاداً للأرض وسبباً لاستقرارها بل هناك حكم كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى. وقد ذكر الفلاسفة للجبال منافع كثيرة قالوا: إن مادة السحب والعيون والمعدنيات هي البخار فلا تتكون إلا في الجبال أو فيما يقرب منها. أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرضين فلا جرم كانت أقواها على حبس البخاري حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون، ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءاً ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئاً من البخار يتحلل وقعر الأرض التي تحته كالقرع والعيون كالأذناب التي في الأنابيق والأودية والبخار كالقوابل، ولذلك أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وهو مع هذا لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة، وأما إن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه. أحدها: أن في باطن الجبال من النداوات ما لا يكون في باطن الأرضين الرخوة، وثانيها: أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الانداء والثلوج ما لا يبقى على ظاهره الأرضين، وثالثها: إن الأبخرة الصاعدة تكون في الجبال، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب تراكم السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهراً وباطناً أكثر والاحتقان أشد والسبب المحلل وهو الحر أقل، وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة فيكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإقامتها في مواضع لا تتفرق فيها أطول ولا شيء في هذا المعنى كالجبال، ومن تأمل علم أن للجبال منافع غير ذلك لا تحصى فلا يضر أن بعضاً من الناس من وراء المنع لبعض ما ذكر وسمعت من بعض العصريين أن من جملة منافعها كونها سبباً لانكشاف هذا المقدار المشاهد من الأرض وذلك لاحتباس الأبخرة الطالبة لجهة العلو فيها، وهو يقتضي أن الأرض قبلها كانت مغمورة وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: «لما خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت» على أنه يتراءى المنافاة بين جعلها أوتاداً المصرح به في الآيات وكونها جاذبة للأرض إلى جهة العلو ولا يرد على ما ذكر في توجيه كونها سبباً لاستقرار الأرض أن كونها فيها كشرع في سفينة ينافيه إذ يقتضي ذلك أن تتحرك الأرض إلى خلاف جهة مهب الهواء لأنا من وراء منع حدوث الهواء على وجهه يحركها بسببه كذلك. وهذا كله إذا حكمنا العقل في البين وتقيدنا بالعاديات، وأما إذا أسندنا كل ذلك إلى قدرة الفاعل المختار جل شأنه وقلنا: إنه سبحانه خلق الأرض مائدة وجعل عليها الجبال وحفظها عن الميد لحكم علمها تحار فيها الأفكار ولا يحيط بها إلا من أوتي علما لدنيا من ذوي الأبصار ارتفعت عنا جميع المؤمن وزالت سائر المحن ولا يلزمنا على هذا أيضاً القول بأن الأرض وسط العالم كما هو رأى أكثر الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين. ولم يخالف من الأولين إلا شرذمة زعموا أن كرة النار في الوسط لأنها أشرف من الأرض لكونها مضيئة لطيفة حسنة اللون وكون الأرض كثيفة مظلمة قبيحة اللون وحيز الاشرف يجب أن يكون اشرف الإحياز وهو الوسط فاذن هي في الوسط وهذا من الاقناعات الضعيفة، ومع ذلك يرد عليه أنا لا تسلم شرافة النار على الأرض مطلقاً فانها ان ترجحت عليها باللطافة وما معها فالأرض راجحة بأمور. أحدها أن النار مفرطة الكيفية مفسدة والأرض ليست كذلك، وثانيها أنها لا تبقى في المكان الغريب مثل ما تبقى الأرض. وثالثها ان الأرض حيز الحياة والنشوء والنار ليست كذلك، وما ذكر من استحسان الحس البصري للنار يعارضه استحسان الحس اللمسي للأرض بالنسبة إليها، على أنا لو سلمنا الاشرفية فهي لا تقتضي إلا الوسط الشرقي لا المقداري إذ لا شرف له وذلك ليس هو إلا حيزها الذي يزعمه جمهور المتقدمين لها لأنه متوسط بين الأجرام العنصرية والإجرام الفلكية، ولم يخالف من الآخرين إلا شرذمة قليلة هم هرشل وأصحابه زعموا أن الشمس ساكنة في وسط العالم وكل ما عداها يتحرك عليها لأنها جرم عظيم جداً وكل الإجرام دونها لا سيما الأرض فإنها بالنسبة إليها كلا شيء، والحكمة تقتضي سكون الأكبر وتحرك الأصغر، وهذا أيضاً من الاقناعات الضعيفة ومع ذلك يرد عليه أن سكون الأصغر لا سيما بين أمواج ورياح وحركة الأكبر لا سيما مثل الحركة التي يثبتها الجمهور للشمس أبلغ في القدرة، وتعليلهم ذلك أيضاً بأنا لا نرى للشمس ميلا عما يقال له منطقة البروج فيقتضي أن تكون ساكنة بخلاف غيرها لا يخفى ما فيه، والذي يميل إليه كثير من الناس أن تحت الأرض ماء وانها فيه كبطيخة خضراء في حوض. وجاء في بعض الأخبار أن الأرض على متن ثور والثور على ظهر حوت والحوت في الماء ولا يعلم ما تحت الماء إلا الذي خلقه. وذكر غير واحد أن زيادة كبد ذلك الحوت هو الذي يكون أول طعام أهل الجنة فحملوا الحوت فيما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت» على ذلك الحوت وبينوا حكمة ذلك الأكل بأنه اشارة إلى خراب الدنيا وبشارة بفساد أساسها وامن العود إليها حيث أن الأرض التي كانوا يسكنونها كانت مستقرة عليه، وخص الأكل بالزائدة لما بينه الأطباء من أن العلة إذا وقعت في الكبد دون الزائدة رجى برؤه فإن وقعت في الزائدة هلك العليل فأكلهم من ذلك أدخل في البشرى. ومنع بعضهم صحة الأخبار الدالة على أنها ليست على الماء بلا واسطة لا سيما الخبر الطويل الذي ذكره البغوي في سورة (ن)} ولم ينكر صحة الخبر في أن أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت إلا أنه قال: المراد بالحوت فيه حوت ما بدليل ما رواه سلطان المحدثين البخاري «أول ما يأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت يأكل منه سبعون ألفاً» بتنكير لفظ حوت، ونظير ذلك في صحيح مسلم حيث ذكر فيه أنه تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وان أدامهم ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفاً، وذكر حال الأرض فيه لا يعين مراد الخصم فإنه يجوز أن يكون الجمع بين ذلك للإشارة إلى خراب الدنيا وانقطاع أمر الاستعداد للمعاش وانصرام الحياة العنصرية المائية أما الإشارة إلى الأول فظاهر، وأما إلى الثاني فبالاستيلاء على الثور وأكل زائدة كبده فإنه عمدة عدة الحارث المهتم لأمر معاشه وفي الخبر «كلكم حارث وكلكم همام» وأما الإشارة إلى الثالث فبالاستيلاء على الحوت وأكل زائدة كبده أيضاً فإنه حيوان عنصري مائي لا يمكن أن يحيا سويعة إذا فارق الماء، وبهذا يظهر المناسبة التامة بين ما اشتمل عليه الخبر، ولا يبعد أن يكون ظهور الحياة الدنيوية بصورة الحوت وما يحتاج إليه فيها من أسباب الحراثة الضرورية في أمر المعاش بصورة الثور وكل الصيد في جوف الفرا، ويكون ذلك من قبيل ظهور الموت في صورة الكبش إلا ملح في ذلك اليوم، وقال بعض العارفين في سر تخصيص الكبد: إنه بيت الدم وهو بيت الحياة ومنه تقع قسمتها في البدن إلى القلب وغيره، وبخار ذلك الدم هو النفس المعبر عنه بالروح الحيواني ففي كونه طعاماً لأهل الجنة بشارة بأنهم أحياء لا يموتون. وذكر أنه يستخرج من الثور الطحال وهو في الحيوان بمنزلة الأوساخ في البدن فإنه يجتمع فيه أوساخ البدن مما يعطيه البدن من الدم الفاسد فيعطي لأهل النار يأكلونه، وكان ذلك من الثور لأنه بارد يابس كطبع الموت، وجهنم على صورة جاموس والغذاء لأهل النار من طحاله أشد مناسبة منه فلما فيه من الدمية لا يموت أهل النار ولما أنه من أوساخ البدن ومن الدم الفاسد المؤلم لا يحيون ولا ينعمون فما يزيدهم أكله إلا مرضاً وسقماً. ونقل عن الغزالي والعهدة على الناقل أنه صلى الله عليه وسلم سئل تارة ما تحت الأرض؟ فقال: الحوت وسئل أخرى فقال: الثور، وعنى عليه الصلاة والسلام بذلك البرجين الذين هما من البورج الأثنى عشر المعلومة وقد كان كل منهما وتد الأرض وقت السؤال ولو كان الوتد إذ ذاك العقرب مثلاً لقال عليه الصلاة والسلام العقرب تحت الأرض. وأنت تعلم أن ذلك بمعزل عن مقاصد الشارع صلى الله عليه وسلم، ولا يتم على ما وقفت عليه من أن الأرض على متن الثور والثور على ظهر الحوت والحوت على الماء، والقول بأن المراد أن الأرض فوق الثور باعتبار أنه وتدها حين الأخبار؛ والثور فوق الحوت باعتبار أنه من البروج الشمالية والحوت من البروج الجنوبية والبروج الشمالية في غالب المعمورة تعد فوق البروج الجنوبية والحوت فوق الماء باعتبار أنه ليس بينه وبينه حائل يرى لا يقدم عليه إلا ثور أو حمار. وبعضهم يؤول خبر الترتيب بأن المراد منه الإشارة إلى أن عمارة الأرض موقوفة على الحراثة وهي موقوفة على السعي والإضطراب وذلك الثور من مبادىء الحراثة والحوت لا يكاد يسكن عن الحركة في الماء وهو كما ترى، والذي ينبغي أن يعول عليه الإيمان بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح فليس وراءه عليه الصلاة والسلام حكيم، والترتيب الذي يذكره الفلاسفة لم يأتوا له ببرهان مبين وليس عندهم فيه سوى ما يفيد الظن، وحينئذ فيمكن القول بترتيب آخر. نعم لا ينبغي القول بترتيب يكذبه الحس ويأباه العقل الصريح وإن جاء مثل ذلك عن الشارع وجب تأويله كما لا يخفى وذكر بعض الفضلاء أنه لم يجيء في ترتيب الإجرام العلوية والسفلية وشرح أحوالها كما فعل الفلاسفة عن الشارع صلى الله عليه وسلم لما أن ذلك ليس من المسائل المهمة في نظره عليه الصلاة والسلام، وليس المهم إلا التفكر فيها والاستدلال بها على وحدة الصانع وكماله جل شأنه وهو حاصل بما يحس منها، فسبحان من رفع السماء بغير عمد ومد الأرض وجعل فيها رواسي {وأنهارا} جمع نهر وهو مجرى الماء الفائض وتجمع أيضاً على نهر ونهور وأنهر وتطلق على المياه السائلة على الأرض؛ وضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلاً واحداً من حيث أن الجبال سبب لتكونها على ما قيل. وتعقب بأنه مبني على ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من أن الجبال لتركبها من أحجار صلبة إذا تصاعدت إليها الأبخرة احتبست فيها وتكاملت فتنقلب مياهاً وربما خرقتها فخرجت، وذكر أن الذي تدل عليه الآثار أنها تنزل من السماء لكن لما كان نزولها عليها أكثر كانت كثيراً ما تخرج الأنهار منها، ويكفي هذا لتشريكهما في عامل واحد وجعلهما جملة واحدة، وكأنهم عنوا بالنزول من السماء على الجبال نزول ماء المطر من السماء التي هي أحد الإجرام العلوية عليها، والأكثرون أن النزول من السحاب، والمراد من السماء جهة العلو وهو الذي تحكم به المشاهدة، وقد أسلفنا لك ما يتعلق بذلك أول الكتاب فتذكر. والأنهار التي جعلها الله تعالى في الأرض كثيرة، وذكر بعضهم أنها مائة وستة وتسعون نهراً وقيل: هي أكثر من ذلك، وجاء في أربعة منها أنها من الجنة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» والأولان بالألف بعد الحاء وهما نهران في أرض الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر أدنه، وقول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام غلط أو أنه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام، وهما غير سيحون وجيحون بالواو فإن سيحون نهر الهند وهو يجري من جبال بأقاصيها مما يلي العين إلى أن ينصب في البحر الحبشي مما يلي ساحل الهند، ومقدار جريه أربعمائة فرسخ، وجيحون نهر بلخ يجري من أعين إلى أن يأتي خوارزم فيتفرق بعضه في أماكن ويمضي باقيه إلى البحيرة التي عليها القرية المعروفة بالجرجانية أسفل خوارزم يجري منه إليها السفن طولها مسيرة شهر وعرضها نحو ذلك، وأما قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان فقد قال النووي: إن فيه إنكار من أوجه. أحدها قوله: الفرات بالعراق وليست بالعراق وإنما هي فاصلة بين الشام والجزيرة. الثاني قوله: سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس. والثالث قوله: ببلاد خراسان إنما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام انتهى. وقد يجاب عن الأول بنحو ما أجيب به عن الجوهري، ولا يخفى أنه بعد زعم الترادف يصح الحكم بأنهما ببلاد خراسان كما يصح الحكم بأنهما ببلاد الأرمن، وفي كون هذه الأنهار من الجنة تأويلان، الأول أن المراد تشبيه مياهها بمياه الجنة والاخبار بامتيازها على ما عداها ومثله كثير في الكلام. والثاني ما ذكره القاضي عياض أن الإيمان عم بلادها وأن الأجسام المتغذية منها صائرة إلى الجنة وهذا ليس بشيء، ولو رد إلى اعتبار التشبيه أي أنها مثل أنها الجنة في أن المتغذين من مائها المؤمنون لكان أوجه، وقال النووي: الأصح أن الكلام على ظاهره وأن لنا مادة من الجنة وهي موجودة اليوم عند أهل السنة. ويأبى التأويل الأول ما في صحيح مسلم أيضاً من حديث الإسراء «وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: يا جبريل ما هذه الأنهار؟ فقال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالفرات والنيل»، وضمير أصلها السدرة المنتهى كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره. والقاضي عياض قال هنا: إن هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها. وتعقبة النووي بأن ذلك ليس بلازم بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها، هذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه، قيل: ولعل الله تعالى يوصل مياه هاتيك الأنهار بقدرته الباهرة إلى محالها التي يشاهد خروجها منها من حيث لا يراها أحد وما ذلك على الله بعزيز، والظاهر أن المراد أصل مياها الخارجة من محالها لا هي وما ينضم إليها من السيول وغيرها، وكأني أرى بعض الناس ليسني يلتزم ذلك في جميع ما يجري في هاتيك الأنهار، وبعضهم أيضاً يجعل الأخبار في هذا الشأن إشارات إلى أمور أنفسية فقط وليس مما ترتضيه إلا نفس المرضية. نعم أنا لا أمنع التأويل مع بقاء الأمر أفاقيا وليس عدم اعتقاد الظاهر مما يخل بالدين كما لا يخفى على من لا تعصب عنده. وللأخباريين في هذه الأنهار كلام طويل تمجه أسماع ذوي الألباب ولا يجري في أنهار قلوبهم ولا أراه يصلح إلا للالقاء في البحر. وجاء في بعض الأخبار مرفوعاً «نهران مؤمنان ونهران كافران أما المؤمنان فالنيل والفرات وأما الكافران فدجلة وجيحون» وحمل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم شبه النهرين الأولين لنفعهما بسهولة بالمؤمن والنهرين الأخيرين بالكافر لعدم نفعهما كذلك أنهما إنما يخرج في الأكثر ماؤهما بآلة ومشقة وإلا فوصف ذلك بالإيمان والكفر على الحقيقة غير ظاهرخ ثم ان أفضل الأنهار كما قال وادح النيل وباقيها على السواء. وزاد بعضهم في عداد ما هو من الجنة دجلة وروى في ذلك خبراً عن مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وليس مما يعول عليه، والله تعالى أعلم {وَمِن كُلّ} متعلق يجعل في قوله تعالى: {الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر وأكد به الزوجين لئلا يفهم ان المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع لكن اثنينية ذلك اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحلو والحامض أو في القدرة كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك. وقيل: المعنى خلق في الأرض من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت، وتعقب أنه دعوى بلا دليل مع أن الظاهر خلافه فإن النوع الناطق المحتاج إلى زوجين خلق ذكره أولا فكيف في الثمرات وتكون واحد من كل أولا كاف في التكون والوجه ما ذكر أولا، وجوز أن يتعلق الجار بجعل الأول ويكون الثاني استئنافاً لبيان كيفية الجعل. وزعم بعضهم أن المراد بالزوجين على تقدير تعلق الجار بجعل السابق الشمس والقمر، وقيل: الليل. والنهار وكلا القولين ليس بشيء {يغشى وَهُوَ الذى} أي يلبسه ماكنه فيصير الجو مظلماً بعدما كان مضيئاً، ففيه إسناد ما لمكان الشيء إليه، وفي جعل الجو مكاناً للنهار تجوز لأن الزمان لا مكان له والمكان إنما هو للضوء الذي هو لازمه، وجوز في الآية استعارة كقوله تعالى: {يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار} [الزمر: 5] بجعله مغشياً للنهار ملفوفاً عليه كاللباس على الملبوس، قيل: والأول أوجه وأبلغ، واكتفى بذكر تغشية الليل النهار مع تحقق عكسه للعلم به منه مع أن اللفظ يحتملهما إلا أن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار، وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وان كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهراً باعتار ظهوره في الأرض. وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو بكر {يغشى} بالتشديد وقد تقدم تمام الكلام في ذلك {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من مد الأرض وجعل الرواسي عليها وإجراء الأنهار فيها وخلق الثمرات وإغشاء الليل النهار، وفي الإشارة بذلك تنبيه على عظم المشار إليه في بابه {لايات} باهرة قيل: هي أثار تلك الأفاعيل البديعة بذلك إلى تلك الآثار المدلول عليها بتلك الأفاعيل {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن التفكر فيها يؤدي إلى الحكم بأن يكون كل من ذلك على هذا النمط الرائق والأسلوب اللائق لا بد له من مكون قادر حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والفكرة كما قال الراغب قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال: إلا فيما لا يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روى تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتكفروا في الله تعالى إذا كان الله سبحانه منزهاً أن يوصف بصورة. وقال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول إلى حقيتها، والمشهور أنه ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول، وقد تقدم وجه جعل هذا مقطعاً في الآية. وذكر الإمام أن الأكثر في الآيات إذا ذكر فيها الدلائل الموجودة في العالم السفلى أن يجعل مقطعها {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وما يقرب منه وسببه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلى إلى الاختلافات الواقعة في الإشكالات الكوكيبة فرده الله تعالى بقوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لأن من تفكر فيها علم أنه لا يجوز أن يكون حدوث تلك الحوادث من الاتصالات الفلكية فتفكر.
|